كان محمود فهمى باشا النقراشى رئيس الحكومة يسير فى فناء وزارة الداخلية متوجها إلى المصعد فى الساعة العاشرة وخمس دقائق صباح الثلاثاء 28 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1948، وأثناء ذلك تقدم شاب شاحب الوجه، يرتدى ثياب ضابط برتبة ملازم أول، وأطلق رصاصتين أصابتا ظهر الفقيد، فسقط على ظهره يتضرج فى دمائه وبعد دقائق فارق الحياة، وتمكن رجال البوليس من القبض على القاتل، وكان شابا عمره 21 عاما يدعى عبدالمجيد أحمد حسن، الطالب بكلية الطب البيطرى بجامعة فؤاد الأول، حسبما يذكره الكاتب الصحفى لطفى عثمان فى كتابه الوثائقى «قضية مقتل النقراشى باشا»، الصادر عام 1950.
تبين أن القاتل ينتمى إلى جماعة الإخوان، ورئيسا لإحدى خلاياها بالجامعة، وتولى النائب العام نفسه التحقيق معه فى نفس يوم ارتكابه الجريمة واعترف بها، قائلا: «نعم أنا قتلته النهارده فى الوزارة بالمسدس اللى ضبطوه معى وكنت بمفردى، ولابس ملابس ضابط اللى هى على الآن، وقتلته لأنه خاين للوطن، واعتدى على الإسلام بقراره حل جماعة الإخوان، وما يتصل بها من شركات».
كان قرار النقراشى بحل الجماعة هو الأكثر إثارة فى أسباب القتل، وأصدره بصفته حاكما عسكريا يوم 8 ديسمبر 1948، بعد تورط الجماعة فى الحوادث الإرهابية التى شهدتها مصر قبل قرار الحل، وأبرزها جريمة اغتيالها للمستشار أحمد الخازندار الرئيس بمحكمة الاستئناف يوم 22 مارس 1948، ووفقا للدكتورة هدى شامل أباظة فى كتابها «النقراشى» فإنه فور صدور أمر حل الجماعة فى الحادية عشرة مساء، حاصر البوليس مركزها العام، وقبض على كل من فيه، فيما عدا المرشد العام، وتعيين مندوب خاص من وزارة الداخلية لإدارة ممتلكات الجماعة لصالح وزارة الشؤون الاجتماعية.
ويكشف «مرتضى باشا المراغى» آخر وزير داخلية قبل ثورة 23 يوليو 1952 فى مذكراته «شاهد على حكم فاروق»، أسرار الأيام السابقة على قرار الحل، قائلا، أن حسن البنا مرشد الجماعة التقى به، وطلب منه توصيل رسالة شفهية إلى الملك فاروق، هى: «إن رئيس الحكومة يريد حل جماعة الإخوان، وهذا قرار بالغ الخطورة، وقد تكون له مغبة وعواقب وخيمة، إذ أنه لا بد أن يقع بيننا وبين الحكومة اصطدام عنيف، ونحن الإخوان نشعر بأن النقراشى باشا جر الملك فاروق إلى خصومتنا، بالتقارير التى رفعها إليه وتتضمن أننا نريد قتل الملك وننبذ تصرفاته».
وانتقل «البنا» فى رسالته إلى التهديد الصريح قائلا، «إننا نستطيع أن نصبر على رئيس الحكومة لأنه قد يترك منصبه فى أى وقت، أما الملك فهو باق، إن الإخوان لا يريدون به شرا، ولا ننبذ تصرفاته، إنه يذهب إلى نادى السيارات للعب الورق، فليذهب، وإلى النوادى الليلية ليسهر، فليسهر، فلسنا قوامين عليه، وعلى كل حال نأمل أن يهديه الله».
يذكر المراغى فى مذكراته، أنه نظر إلى حسن البنا ثم قال له: «رسالتك خطيرة، وسأبلغها إلى الملك، وسأبلغ رأيك فى حل الإخوان، وخطورة عاقبته إلى النقراشى»، وهز «البنا» رأسه قائلا: أعرف أن رئيس الحكومة عنيد، وسينفذ رأيه، ولكنى رجوت أن تخبر الملك عله يقنعه بالعدول عن تلك الجريمة النكراء»، ويؤكد المراغى، أن عين حسن البنا قدحت بالشر وهو يقول: «نعم إنها جريمة نكراء، يريد النقراشى ارتكابها، هل يظن أننا لعبة فى يده يستطيع تحطيمها بسهولة؟!».
يكشف «المراغى»، أنه ذهب فى اليوم التالى لمقابلة النقراشى، ومعه تقرير بالمقابلة لرفعه إلى الملك، وفيما كان الاثنان يتناقشان حول المسألة، وكان «النقراشى» غاضبا، دخل عبدالرحمن عمار وكيل الوزارة، وطلب منه النقراشى الجلوس وسماع رواية المراغى، فرد عمار: «على كل حال المسألة منتهية يا دولة الرئيس، فقد انتهيت من وضع قرار حل جماعة الإخوان، وسأعرضه غدا على دولتكم لتوقيعه».
يضيف المراغى فى شهادته: «هالنى الأمر، فقلت: أرجوك يا دولة الرئيس أن تقدر خطورة الأمر وتتمهل فى قرار الحل، الإخوان يشكلون منظمات وخلايا سرية لا علم لوزارة الداخلية حتى الآن بأسماء أعضائها، وقد يكون بعضهم داخل الوزارة ومن حراس الأمن، وأنا أعلم أن كثيرين من ضباط الجيش هم من جماعة الإخوان، رد النقراشى قائلا: هل تريد أن نقر الإرهاب ونعترف بشرعيتهم، لأن بعضهم محكوم عليه بالسجن؟! هل تسمح لها بأن تتمادى إلى حد قتل القضاة؟! لا بد من حلها»، يؤكد المراغى: «ضحك النقراشى وقال: أعرف ديتها، إنها رصاصة أو رصاصتان فى صدرى».
بالفعل نفد الطالب عبدالمجيد أحمد حسن، تهديد مرشده، ويذكر عبدالرحمن الرافعى، فى الجزء الثالث من كتابه «فى أعقاب الثورة المصرية ثورة 1919»، أن التحقيقات بينت أن والد الجانى كان موظفا بوزارة الداخلية ومات، فقرر النقراشى تعليم ابنه بالمجان.