ناهد صلاح

كازابلانكا التي لا تعرف همفري بوجارت

السبت، 27 ديسمبر 2025 02:46 م


في كل مرة أخبر فيها صديقاً جديداً أنني سأسافر إلى الدار البيضاء، يلمع في عينيه بريق، ويبادرني بالسؤال الكليشيه المعتاد: "هل ستزورين مقهى ريك؟ هل ستعيشين أجواء الفيلم؟". أبتسم بتهذيب، بينما أحاول أن أخفي رغبتي في الضحك. الحقيقة التي يجهلها هؤلاء الحالمون هي أن "كازابلانكا" الفيلم، تلك الدراما الرومانسية بالأبيض والأسود، لم تطأ أقدام ممثليها أرض المغرب قط؛ لقد صُوِّر بالكامل داخل استوديوهات مغلقة في كاليفورنيا.

المدينة التي أزورها بانتظام منذ سنوات، والتي أدمنت العودة إليها، لا تشبه في شيء ذلك السكون الرومانسي الهوليوودي. إنها كائن حي، صاخب، ملون، والأهم من ذلك: إنها حقيقية بشكل صادم.

لسنوات طويلة، كانت الدار البيضاء مجرد خيال هوليوودي، رسم كل ما يعرفه العالم عنها. وحينما قرر البعض تحويل هذا الخيال إلى حقيقة ملموسة، نشأ "ريكس كافيه" الحديث. زرته منذ بضع سنوات، لا بصفته معلماً تاريخياً، بل كدليل على أن الناس يحتاجون دائماً إلى لمسة من الوهم الجميل. خرجت منه وفي رأسي فكرة واحدة: هذا المقهى، رغم روعته، يمثل كازابلانكا التي يتمنى السياح رؤيتها.

أما المدينة الحقيقية، فهي تبدأ بالضبط حيث تنتهي عتبات هذا المكان الأنيق؛ في الشارع المليء بالصوت والحركة والتناقض الذي لا يتوقف.

أزور الدار البيضاء كثيراً، وفي كل مرة أحزم فيها حقائبي، أتوهم أنني حفظت خريطتها، فهمت إيقاعها، وامتلكت مفاتيحها. أقول لنفسي: "هذه المرة، لن يفاجئني شيء". وفي كل مرة، تضحك "كازا" في وجهي وتثبت خطئي. هذه المدينة ترفض أن تكون متحفاً مفتوحاً مثل مراكش أو فاس؛ إنها ترفض السكون. إنها ورشة عمل لا تتوقف، كائن يعيد اختراع نفسه كل صباح.

سحر كازابلانكا، بالنسبة لي، يكمن في الدهشة التي تنتظرك في الزوايا  وتظن أنك تعرفها. قد أمشي في شارع محمد الخامس الذي عبرته عشرات المرات، وفجأة أرفع رأسي لأكتشف تفصيلاً معمارياً في مبنى "آرت ديكو" قديم لم ألحظه من قبل؛ شرفة مزخرفة تقاوم الزمن، أو نقشاً يحكي قصة تعايش ثقافي مر من هنا. أو ربما أجد مقهىً عصرياً فائق الحداثة قد نبت فجأة بجوار محل عتيق لبيع الكتب، أو محل يتباهى بالأزياء التقليدية، في تناقض لا يقبله إلا منطق هذه المدينة.

في الحي المحمدي، حيث يصبح للمدينة صوت آخر، أفهم الدار البيضاء على نحو أعمق. هنا، لا تبدو المدينة مشهداً بصرياً فقط، بل ذاكرة جماعية كاملة. يكفي أن يمر في رأسك مطلع أغنية للناس الغيوان: "الصينية دارها فينا… والجرح قديم ما يبرا"، حتى تشعر أن الأزقة تحفظ الكلمات كما تحفظ الوجوه. الحي المحمدي ليس حياً عادياً؛ إنه قلب ثقافي نابض، طلع منه الفن بشتى أنواعه، خرجت منه موسيقى جعلت الاحتجاج شعراً، والحزن حكمة، والناس شركاء في الوجع والفرح.

من هناك، لا أملّ المرور سريعاً عند باب مراكش، هذا المعبر الذي لا يلفت الانتباه بقدر ما يختزن طبقات من الذاكرة. باب ليس سياحياً بالمعنى الشائع، لكنه يذكّرك بأن كازابلانكا مدينة أبواب مفتوحة دائماً على الداخل، لا على الماضي وحده.

على مسافة شعورية منه، تأتي الحبوس مختلفة تماماً؛ أكثر انضباطاً، أكثر ترتيباً، كأنها مدينة داخل المدينة. إذا كان باب مراكش عتبة عفوية ومفتوحة على اليومي، فإن الحبوس تبدو كذاكرة مُهذَّبة، صممت لتُرى وتُزار. أحب هذا التباين بين المكانين: أحدهما يعيش بلا شرح، والآخر يروي نفسه بهدوء، وكلاهما ضروري لفهم كازابلانكا كما هي، لا كما تُروى.

الدار البيضاء مدينة لا تتجمل للسياح، هذا ما يجعلني أحترمها. إنها لا تضع "المكياج" لتلتقط لها الصور. تعرض عليك ندوبها وفوضاها بفخر: أبواق السيارات التي تعزف سيمفونية الصخب اليومي، الرطوبة التي تحمل رائحة المحيط وتمتزج برائحة القهوة القوية، والزحام الذي يضج بالحياة وبالرغبة الدائمة في الوصول.

أجمل جولاتي لاكتشاف المدينة كانت بصحبة الصديق المخرج حميد باسكيط، الذي يعرف كيف يمنح الشوارع مسحة من كرم مغربي خالص. معه، لا تكون الجولة مجرد تنقل بين الأماكن، بل سلسلة لقاءات عفوية، وتوقف غير مخطط له لشرب الشاي ( أتاي مغربي) أو تبادل التحية مع أصدقاء، هم على الأغلب وببساطة من نجوم الفن والمجتمع. وجوده يذكرك بأن كازابلانكا، مهما بدت قاسية من الخارج، مدينة تعرف كيف تفتح قلبها لمن يقترب دون أحكام.

خلف واجهة المباني البيضاء الشاهقة، ومسجد الحسن الثاني الذي يعانق المحيط بشموخ لا يضاهى، توجد تفاصيل صغيرة تأسرني. أحب الطريقة التي يتغير بها ضوء الشمس على الواجهات عند الغروب، محولاً اللون الأبيض إلى ذهبي دافئ يغفر للمدينة قسوتها النهارية. وأحب الحديث مع سائقي التاكسيات الحمراء، الذين يملكون فلسفة خاصة في الحياة لا تجدها في الكتب.

أعود إلى كازابلانكا لا لأبحث عن خيال إنجريد بيرجمان وهمفري بوجارت، بل لأشتبك مع الواقع. أعود لأنها المدينة التي تشعرني بأنني جزء من حركتها، لا مجرد متفرجة. قد يكون الفيلم هو من خلد اسمها عالمياً ومنحها هالة أسطورية، لكن بالنسبة لي، وللكثيرين ممن وقعوا في غرام فوضاها، الواقع أجمل وأقسى وأكثر إثارة من أي سيناريو سينمائي. كازابلانكا الحقيقية ليست قصة حب انتهت بوداع في المطار؛ إنها قصة حب متجددة، ودهشة لا تنتهي.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة