محمد دياب يكتب: جيل يتكوّن تحت النار

السبت، 27 ديسمبر 2025 12:30 م
محمد دياب يكتب: جيل يتكوّن تحت النار محمد دياب

محمد دياب

لم تعد الرواية الإسرائيلية، التي جرى تسويقها لعقود باعتبارها «حقيقة أخلاقية» في الوعي الغربي، قادرة على الصمود أمام اختبارات الواقع. فالأحداث المتسارعة، وما صاحبها من ممارسات ميدانية قاسية، كشفت هشاشة الخطاب الدعائي الذي بُني بعناية لتبرير سياسات الاحتلال وتقديمها في صورة دفاع مشروع عن النفس. ومع تصاعد العدوان على غزة، تحوّلت هذه الرواية من أداة إقناع إلى عبء سياسي وأخلاقي يفضح صاحبه قبل أن يدينه الآخرون

لطالما أصرت إسرائيل على أن جذور العداء لها تبدأ من الفصول الدراسية العربية، وأن مناهج التعليم هي المسؤولة عن تشكيل وعي معادٍ لدى الأطفال منذ سنواتهم الأولى. ومن هذا المنطلق، جرى الضغط سياسياً وإعلامياً لتغيير تلك المناهج، باعتبار ذلك مدخلاً ضرورياً لتهيئة أجيال عربية تقبل بإسرائيل وتؤمن بإمكانية التعايش معها. غير أن هذه السردية، التي بدت مقنعة لبعض الوقت، فقدت معناها أمام مشهد مختلف تماماً فرضته الحرب

في غزة، تحوّل التعليم من قضية خلاف أيديولوجي إلى واقع غائب من الأساس. مدارس مغلقة، جامعات مدمّرة، ومؤسسات تعليمية تحولت إلى ركام. أطفال كُثر لم يعرفوا الصفوف الدراسية ولا الكتب، لكنهم عرفوا القصف، واللجوء القسري، وفقدان الأمان. هنا، يتشكل الوعي بعيداً عن المناهج، ويتكوّن الإدراك من تفاصيل الحياة اليومية تحت النار

هذا الجيل لا يحتاج إلى دروس نظرية عن الصراع، فالتجربة وحدها كفيلة بترسيخ مواقف راسخة. مشاهد البيوت المهدمة، والمستشفيات المستهدفة، والجوع الممتد، والغياب المفاجئ للأهل والأصدقاء، تصنع ذاكرة جماعية يصعب محوها أو إعادة تشكيلها بخطاب سياسي لاحق. ومن العبث افتراض أن طفلاً نشأ في هذا المناخ يمكن أن ينظر إلى الطرف الذي تسبب في معاناته باعتباره شريك سلام محتمل
بهذا المعنى، أسهمت إسرائيل، من حيث لا تدرك أو تتجاهل، في صياغة وعي جديد لدى أطفال غزة، وعي لا يعتمد على السرديات ولا يحتاج إلى تعبئة فكرية. إنه وعي يتشكل من التجربة المباشرة، واحتكاك يومي بقسوة الواقع، وشعور عميق بالظلم تصنعه الأفعال وتعبّر عنه الكلمات

أما على المستوى الأوسع، فإن هذا التحول في إدراك العالم، وخاصة الرأي العام الدولي، جاء ضمن نتائج غير محسوبة لمسار الأحداث التي تفجرت منذ أكتوبر. قد لا يكون هذا الانكشاف هدفاً مباشراً لأي طرف، لكنه يظل نتيجة طبيعية لتراكم الوقائع، حيث تتجاوز النتائج نوايا الفاعلين، وتفرض الحقيقة نفسها مهما حاولت الدعاية تأجيل ظهورها.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة