أكد الدكتور محمد فيصل، الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف، أن قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ يمثل استكمالًا لدعاء خليل الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام أثناء قيامهما ببناء بيت الله الحرام، موضحًا أن هذا الدعاء يكشف عن حالة عظيمة من استحضار الله أثناء العمل، حيث لم يشغلهما الفعل عن المعبود، بل كان القلب معلقًا بالله، واللسان يلهج بالدعاء.
وأشار الأستاذ بجامعة الأزهر، خلال حلقة برنامج "لغة القرآن"، المذاع على قناة الناس، اليوم الأربعاء، إلى أن في الآية درسًا بالغ الأهمية، وهو أن العبد إذا كُلِّف بعمل وإن كان عبادة—فلا ينبغي أن ينشغل بالعمل عن الله، بل يكون العمل موصلًا للحضور مع الله، مستشهدًا بأن المصلي لا ينشغل بحركات الصلاة عن الله، فكيف ينشغل بأمور الدنيا وهي دون العبادة منزلة.
وبيّن الدكتور محمد فيصل أن قول إبراهيم وإسماعيل: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ لا يعني أنهما لم يكونا مسلمين، بل هو تعبير عن تواضع الصالحين الذين لا يرون لأنفسهم كمالًا مهما بلغوا من الطاعة، فـ«اجعلنا» هنا بمعنى صَيِّرنا على كمال الإسلام والخضوع الذي ترضاه، وكأنهما يقولان: يا رب زدنا استسلامًا وخضوعًا، وأعِنَّا على تنفيذ تكليفك بقلوب منقادة لك.
وأوضح أن أثر هذا الدعاء تجلّى بوضوح في موقف الذبح، حين رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ابنه، فقال له: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾، فجاء الامتثال من الابن: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾، فحقق الاثنان معنى الإسلام الكامل، وهو الاستسلام القلبي قبل الفعلي، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾.
وتوقف الدكتور محمد فيصل عند تكرار لفظ «ربنا» في الدعاء، مؤكدًا أن هذا التكرار نابع من التلذذ بذكر الله، فالمحب يكرر اسم محبوبه، كما أن لفظ «ربنا» يحمل معنى الرعاية السابقة، وكأن الداعي يقول: يا من رعيتنا وقويتنا وربيتنا، لا تقطع عنا ما عودتنا عليه من لطفك وفضلك.
وأضاف أن عطف قوله: ﴿وَاجْعَلْنَا﴾ على ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ بالواو يدل على الجمع بين قبول العمل والاستمرار على حال الإسلام الكامل، مشيرًا إلى أن الدعاء لم يقتصر على إبراهيم وإسماعيل، بل امتد ليشمل الذرية: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ﴾، وهو تعليم رباني بأن المؤمن لا ينسى أبناءه وذريته من الدعاء.
وأوضح الأستاذ بجامعة الأزهر أن المقصود بالأمة المسلمة هنا هي الأمة التي ستخرج من ذرية إسماعيل عليه السلام، والتي لم يبعث فيها نبي إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مؤكدًا أن ترتيب الدعاء في الآيات جاء بميزان دقيق؛ فبدأ بدعاء خاص لإبراهيم وإسماعيل، ثم دعاء عام للذرية، ثم الانتقال إلى طلب المناسك، لأن الأمة المسلمة ستقتدي بإبراهيم في عبادته ومناسكه.
وأكد الدكتور محمد فيصل بأن هذه الآيات ترسم منهجًا متكاملًا في العبادة والدعاء والعمل، يقوم على استحضار الله، والتواضع في الطاعة، والدعاء للذرية، وربط الدنيا بالدين، ليبقى الإنسان سائرًا إلى الله بقلب خاضع وعمل مخلص.