لقد قام الأزهر الشريف تاريخيًا على التعددية المذهبية، لا بوصفها تنوعًا شكليًا، بل باعتبارها بنية علمية تحمي الفقه من الجمود، وتحمي المجتمع من الرأي الواحد.
وجود المذاهب الأربعة داخل الأزهر لم يكن مسألة عدد، وإنما مسألة توازن؛ كل مذهب كان يضبط الآخر، ويمنع أي اتجاه من الانفراد بالعقل الديني العام.
المشكلة اليوم ليست في الخلاف الفقهي، ولا في تعدد الآراء، بل في أن المذهبية نفسها بدأت تنقرض.
بعض المذاهب أصبح حضوره ضعيفًا، وبعضها كاد يختفي تمامًا من التكوين العلمي، فتحولت التعددية من واقع حيّ إلى ذكرى تاريخية.
حين يضعف حضور مذهب، لا نخسر كتابًا أو شيخًا، بل نخسر طريقة تفكير كاملة.
المذهب ليس مجرد أحكام، بل منهج في الاستدلال، ونمط في التعامل مع النص والواقع.
غياب هذه المناهج يفتح الباب أمام فقه واحد يملأ الفراغ، لا لأنه الأقوى علميًا، بل لأنه الوحيد الموجود.
وهنا مكمن الخطر:
الفراغ المذهبي لا يُنتج تنوعًا، بل يُنتج رأيًا أحاديًا، والرأي الأحادي في المجال الديني لا يقود إلا إلى ضيق الأفق، وتوتر العلاقة مع المجتمع، وربما الصدام معه.
التجربة المصرية أثبتت أن التعددية المذهبية كانت أحد أهم أسباب الاستقرار الديني.
لم تكن مصر ساحة لتناحر فقهي؛ لأن الأزهر علّم الناس أن الاختلاف منضبط، وأن تعدد المذاهب رحمة لا فوضى. وحين يختل هذا الميزان، يصبح المجتمع أكثر قابلية للانجرار وراء خطاب متشدد أو تبسيطي، لا يرى إلا نفسه.
إحياء التعددية المذهبية اليوم لم يعد خيارًا فكريًا، بل ضرورة مؤسسية. المطلوب ليس شعارات عن الوسطية، بل سياسات تعليمية واضحة تُعيد للمذاهب حضورها الحقيقي: شيوخ متخصصون، ومسارات علمية محترمة لكل مذهب، حتى يستعيد الأزهر طبيعته الجامعة.
الخلاصة الصريحة:
الأزهر بلا مذاهبه المتعددة يفقد أحد أهم أسباب قوته.
وانحسار المذهبية ليس شأنًا داخليًا، بل خطر يمتد أثره إلى المجتمع كله.