بيشوى رمزى

الخوف المستدام

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2025 09:02 ص


ترتبط العمليات الإرهابية، في كل دول العالم، باستنفار أمني، مع فرض حالة طوارئ، باعتبارها آليات لحظية، للتعامل مع الحدث القائم بالفعل، وقد تتجاوزه إلى نطاق زمني أطول، لتعمل معه العديد من العوامل الأخرى، لتشكل طبيعة الخوف المجتمعي، وهو أمر قائم بالفعل، كرد فعل بشري طبيعي، بمجرد اندلاع العملية الإرهابية، إلا أن طبيعة الخوف واستدامته مرتبط بالأساس بالخطاب السياسي اللاحق للأحداث، سواء من النظام أو المعارضة، وشكل القوانين الاستثنائية التي يتم فرضها، بالإضافة إلى التناول الإعلامي، وهي في مجملها عوامل تساهم بصورة أو بأخرى، في تشكيل طبيعة الخوف، ليكون إما طارئا، مرتبطا بحدث، وبالتالي يتراجع تدريجيا مع انتهائه وتحقيق السيطرة الأمنية، أو يتحول إلى سلوك عام، يهيمن على الحياة اليومية للمواطن.

والواقع، أن خلق حالة الخوف هو المهمة الأساسية التي تضعها تنظيمات الإرهاب على عاتقها، ولكن تبقى المهمة الأكثر خطورة في تحويله من حالة طارئة ترتبط بالعمل الإرهابي، إلى سلوك مجتمعي مستدام، وهو ما لا يتحقق بتواتر أعمال العنف، بقدر ما تحققه الخطوات التي تتخذ من الفاعلين الرئيسيين في الدولة المستهدفة، فتواتر العنف في دولة واحدة، خاصة في نطاق زمني قصير، يعد مقامرة، غالبا ما لا تقدم عليها جماعات الإرهاب، في ضوء إجراءات أمنية محكمة تهدف بالأساس إلى منع تكراره، بينما يبقى رد الفعل المتجسد في طبيعة الخطاب هو المنوط بتحقيق الهدف الذي لا تملك جماعات العنف تنفيذه بيدها، خاصة إذا ما كنا نتحدث هنا عن دول قوية لديها مؤسسات متماسكة، وليس عن نماذج مفككة، لا تملك فيها الأنظمة سيطرة فعلية على زمام الأمور.

خطورة الخوف المستدام، ليس فقط في تغيير القوانين المرتبطة بالحالة الأمنية، وإنما في تغيير ملموس في سلوك المجتمع، وهو ما يبدو في مسارات متعددة، منها ما هو أيديولوجي، يتجلى بوضوح في الميل الحدي نحو اليمين المتطرف، وهو ما تجلت إرهاصاته منذ منتصف العقد الماضي، مع تواتر الهجمات التي ضربت عدة مدن أوروبية في فرنسا وبلجيكا وألمانيا وغيرهم، وسياسي، عبر الانقلاب على مفاهيم لها جذور عميقة في المجتمعات الأوروبية، ربما أبرزها المفاهيم المرتبطة بالديمقراطية، في ضوء تظاهرات ميدانية استبقت الاصطفاف أمام صناديق الانتخاب، على غرار السترات الصفراء، أو حتى اعتراضا على ما آلت إليه عمليات التصويت، كما حدث في الولايات المتحدة، بعد سقوط الرئيس دونالد ترامب أمام منافسه السابق جو بايدن في 2021، عندما اقتحم آلاف من أنصاره لمقر الكونجرس، ومجتمعيا عبر تصاعد النزعات العنصرية والدينية، في إطار التعامل الإنساني بين أفراد المجتمع، وهو ما يمثل الحلقة الأخطر من حلقات التفكك التي يسعى الإرهاب إلى زرعها تمهيدا لاستنزافه.

هذا التحول السلوكي يفتح الباب أمام تآكل تدريجي لجملة من المبادئ التي طالما قدمت بوصفها مرتكزات أساسية للنظام السياسي الحديث، وفي مقدمتها حقوق الإنسان وحرية التعبير، فمواجهة الخطر، باتت مبررا لحملات احتجاز استثنائية وانتهاكات جسيمة، كما حدث في نماذج أصبحت رمزية مثل معتقل جوانتانامو، حيث جرى تعليق القيم القانونية والأخلاقية بدعوى الضرورة الأمنية، وفي السياق ذاته، تقيد حرية الرأي والتظاهر، وتلاحق الاحتجاجات باعتبارها تهديدا للاستقرار، في مشاهد بدت، حتى وقت قريب، نقيضًا للخطاب الذي تبنته هذه الدول في دفاعها المعلن عن تلك المبادئ عالميًا.

التغيير العميق في مبادئ شكلت جذور المجتمعات، سواء على المستوى السياسي أو المجتمعي أو الإنساني، تترك تداعيات أكبر على حياة المواطنين، وهنا أقصد كل المواطنين، فالاقتصاد يتراجع، والأزمات تحاصر المجتمع، والدخول تنخفض، والبطالة تتزايد، والتضخم يتفاقم، فيتحول الخوف من مجرد حالة أمنية، إلى هلع دائم، تحكمه ضغوط الحاضر وغموض المستقبل.

غير أن استدامة الخوف لا تدار بالآليات ذاتها في كل الدول، فبينما اختارت بعض النماذج توظيفه سياسيا وإبقائه حاضرا في المجال العام، سعت نماذج أخرى إلى تفكيكه بوصفه تهديدا لا يقل خطورة عن الإرهاب نفسه.

فعلى الجانب الآخر من الكوكب، بينما كانت تنهي مصر معركتها ضد الإرهاب، ألغت قانون الطوارئ، في 2021، والذي حكم البلاد لأربعة عقود كاملة عقود من الزمان، في خطوة تعكس إنهاء حالة الخوف، التي سيطرت على المجتمع المصري، وهو ما حمل في طياته تحويل حالة الاستدامة من الخوف، والذي فرضته أوضاع داخلية ودولية وإقليمية، بلغت ذروتها في العقد الماضي، إثر ما يسمى بـ"الربيع العربي"، نحو التنمية، في ضوء ما ساهم به القرار من تقديم رسالة إيجابية للعالم، مفادها أن الاستقرار أصبح عنوان المرحلة، خاصة وأن المعركة ضد الإرهاب نفسها حملت مسارات تنمويا عبر مشاريع بنية أساسية عملاقة، وخطوات واسعة لدمج كافة الفئات في العمل التنموي، بين رجال ونساء وشباب وذوي الهمم، مرورا بالمنظمات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني، وحتى الأحزاب السياسية، لتعمل كلها في بوتقة واحدة بهدف تعزيز التماسك المجتمعي، وهو السلاح الأهم الذي يجب أن تحمله الدولة في مواجهة الإرهاب.

وهنا يمكننا القول بأن الخوف المستدام ليس مجرد نتيجة جانبية للإرهاب، بل يتحول إلى عامل فاعل يعيد تشكيل المجتمعات من الداخل، ويمنح التنظيمات المتطرفة ما عجزت عن تحقيقه عبر العنف وحده، إذ يظل التهديد حاضرًا حتى في غياب الفعل الإرهابي ذاته، ويغدو المجتمع أكثر هشاشة واستنزافًا على المدى الطويل.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة