تظل العلاقة بين الرقابة والمبدع واحدة من أكثر العلاقات تعقيدًا وتناقضًا في تاريخ الإبداع الفني والفكري، فالرقابة، في صورتها المتشددة، قد تتحول إلى أداة قمعية تخنق الإبداع وتدفع المبدعين إلى ممارسة رقابة ذاتية قاسية، خاصة حين تُمارس تحت دعاوى حماية القيم أو الذوق العام، وهو ما يؤدي إلى تقييد حرية التعبير وخلق مناخ من الخوف والشك لدى الفنان والمفكر.
في المقابل، يرى البعض أن الرقابة، حين تُمارَس بوصفها أداة تنظيم أو "مراقبة جودة"، يمكن أن تسهم في تحفيز الإبداع، من خلال اكتشاف أوجه القصور وإتاحة فرص للتطوير والابتكار، أو عبر تنظيم العلاقة بين المبدع والجمهور والمجتمع، بما يضمن عدم تجاوز الحدود الأخلاقية الأساسية دون فرض وصاية فكرية أو قهر إبداعي.
"الملحد".. نموذج معاصر للصراع
وعادت هذه الإشكالية إلى الواجهة مؤخرًا مع الجدل الواسع الذي أثاره فيلم "الملحد" في مصر، بسبب تناوله قضايا الإلحاد والتطرف. فقد تعرض الفيلم لتأجيلات متكررة، وواجه دعاوى قضائية تطالب بمنع عرضه بدعوى المساس بالدين.
غير أن محكمة القضاء الإداري حسمت الجدل مؤخرًا برفض دعاوى المنع، مؤكدة أحقية عرض الفيلم بعد حصوله على ترخيص من جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، في قرار عُدّ انتصارًا لحرية التعبير الفني في مواجهة محاولات الوصاية الفكرية.
أول عمل مسرحي مرفوض رقابيًا في مصر
وبالعودة إلى تاريخ الرقابة في مصر، يتضح أن هذا الصراع ليس وليد اللحظة. إذ يشير الباحثون إلى أن أقدم نص مسرحي رُفض رقابيًا في مصر يعود إلى أكثر من مئة عام، وهو مخطوطة مسرحية «دار العجائب» لمؤلفها محمد إبراهيم منصور، والتي يحتفظ المركز القومي للمسرح والموسيقى بنصها الأصلي، مرفقًا بالمستندات والتقارير الرقابية الخاصة بها.
وفي يوم 2 يونيو 1923، تقدم محافظ الإسكندرية بطلب إلى وكيل وزارة الداخلية للحصول على ترخيص بتمثيل المسرحية على أحد مسارح المدينة. غير أن الرقابة سرعان ما تدخلت لمنع العرض.
تقرير الرقيب وأسباب المنع
وبحسب ما ورد في كتاب «الرقابة والمسرح المرفوض (1923–1988)» للدكتور سيد علي إسماعيل، كتب الرقيب «عزيز» في 20 يوليو 1923 تقريرًا أوصى فيه بمنع الترخيص، موضحًا أنه اطّلع على المسرحية، وهي عمل تاريخي كوميدي يتناول سيرة ملك فرنسا «فرنسوا»، الذي صُوّر في النص باعتباره شخصية ماجنة تميل إلى الاغتصاب والاعتداء على الأعراض، حتى بلغ به الأمر أن اعتدى على فتاة دون أن يعلم أنها ابنته، بعد أن كان قد اغتصب أمها سابقًا، ما أدى إلى موتها يأسًا.
وأشار التقرير إلى أن المسرحية تتضمن «كثيرًا من الامتهان والازدراء والتحقير»، فضلًا عن تعريض ساخر بالملوك، وهو ما اعتبره الرقيب سببًا كافيًا لرفض الترخيص، لما قد يترتب عليه من «تأثير سيئ» على الجمهور.
قراءة سياسية للمنع
ويرى الباحثون أن أسباب المنع لم تكن فنية بقدر ما كانت سياسية؛ إذ إن الرقيب ركز على مشاهد البداية التي تُظهر الملك بصورة شهوانية منحرفة، وتجاهل المعالجة الدرامية الكاملة للنص، التي تنتقد استبداد الحكم وتدعو إلى مساءلة السلطة، بل وتؤكد أن قوة الحكم الحقيقية تكمن في الشعب البسيط، وأن الحاكم ينبغي أن يكون من عامة الناس.
ويعزز هذا التفسير أن مؤلف المسرحية لجأ إلى نقل الأحداث إلى فرنسا، باعتبارها «مخرجًا رمزيًا» لتمرير نقده للواقع المصري آنذاك. غير أن الرقابة، التي كانت تمثل الحكومة الخاضعة للهيمنة الاستعمارية البريطانية، لم تكن لتسمح بعمل مسرحي يفضح عيوب الحاكم أو يشكك في شرعية السلطة.
نهاية رمزية ومخاوف السلطة
وتنتهي المسرحية بتولّي «منفرو»، زعيم الشحاذين، حكم مدينة باريس، في دلالة واضحة على قلب هرم السلطة، وهو ما زاد من مخاوف الرقابة. كما تتضمن المسرحية إشارات إلى خوف الملك من قوة العلماء والفلاسفة ورجال الدين والصحافة والثائرين عليه، وهي رموز اعتُبرت آنذاك شديدة الخطورة.