وليد فكرى

فى عالم المماليك "2".. هل المماليك مصريون أم من بين الحكام الأجانب لمصر؟

الأحد، 21 ديسمبر 2025 03:41 م


فى تتر نهاية مسلسل "على الزيبق" - إنتاج سنة 1985 - يقول الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى "حكموكِى ما حكموكِى.. برضه المصرى مصرى والمملوكى مملوكى".

مع احترامى لإبداع شاعرنا الكبير، ولكن للتاريخ رأى آخر..

فالمماليك رغم أصولهم غير المصرية، أغلبهم من وسط آسيا وجنوبى روسيا المعاصرة، إلا أنهم قد انقطعت بهم الأسباب عن مسقط رأسهم، ولم يعرف أى منهم غير مصر وطنا فى نشأته وحياته وحتى وفاته، وحاربوا تحت رايتها واستشهد بعضهم دفاعا عنها وضحى آخر سلاطينهم بحياته مشنوقا بيد المحتل العثمانى على باب عاصمتها رافضا أن يكون حاكما باسم الاحتلال، فكيف يعدون غير مصريين؟!

ومصر منذ تاريخها القديم عرفت ظاهرة "التَمَصُّر"، فهى مجتمع مستوعب لمن يرغب فى الحياة فيه والارتباط به وحمل هويته،  ولنا فى البطالمة مثال قوى، فلئن كان أبوهم بطليموس بن لاجوس -المعروف ببطليموس الأول وبطليموس سوتير - كان مقدونيا مهاجرا، إلا أن نسله من البطالمة قد وُلِدوا وعاشوا وماتوا فى مصر.

وفى التاريخ الوسيط لمصر لدينا مثال الفاطميين، فمنذ انتقالهم إلى مصر من تونس فى عهد المعز لدين الله، أصبحوا محسوبين من الحكام المصريين وصارت عاصمتهم عاصمة مصر للعصور اللاحقة إلى يومنا هذا.

وفى التاريخ الحديث، توصف أسرة محمد على باشا الحاكمة أنها أسرة مصرية ذات أصل أجنبى.
فلماذا يكون المماليك استثناء؟ أليس المتمصر هو من انقطعت به الأسباب عن بلده الأصلى وصارت مصر مستقرا له وصار يُحسَب من أهلها وارتبط تاريخه بها وتاريخها به؟

وفى كتابات المؤرخين المعاصرين للمماليك - مثل المقريزى وابن خلدون - نرى فى تقسيم طبقات وفئات المجتمع المصرى أن المماليك قد حُسِبوا مع المصريين، حيث صُنِفوا فى الطبقة العليا.

وكان أمراء المماليك إذا ذُكِروا قيل عنهم "الأمراء المصرية" وكان جيشهم يوصف بـ "العساكر المصرية".. فى إقرار ضمنى بمصريتهم.

قد يعلل البعض تصنيفه إياهم كـ "حكام أجانب" بحالة العُزلة التى فرضوها على أنفسهم وأنهم كانوا يتعالون عن الاختلاط بالعامة، ولكن هذا التعليل مردود عليه من عدة أوجه.

فمن ناحية: لا يعد انعزال الطبقة الحاكمة عن العامة أنها "نظام حكم أجنبى"، وإلا لا نطبق هذا على أسر مثل الساسانيين فى فارس القديمة وأسرة بوربون فى فرنسا الملكية، وغيرها من الأسر الحاكمة عبر التاريخ.

ومن ناحية ثانية: لم يكن انعزال المماليك عن العامة تعاليا منهم أو ترفعا كما هو شائع، بل كانت سُنة سنها الخليفة العباسى المعتصم بالله، عندما تأذت الرعية من خشونة وغلظة وأذى مماليكه، فجعل لهم مدينة خاصة هى "سُر من رأى"، فصارت العادة أن يعيش المماليك فى عزلة عن الناس لتجنب أى صدامات قد تؤدى تبعاتها لثورة العامة على الحكم، فكانوا يعيشون أولا فى جزيرة الروضة فى نهر النيل، ثم أصبحوا يعيشون فى جزء مخصص لهم من قلعة الجبل يُعرَف بـ "الطِباق"، وكان للأمراء مساكن خاصة بمماليكهم كذلك. 

ثم تغير ذلك فى عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون الذى سمح للمماليك بالنزول من القلعة والسكن بالقاهرة، فاتخذ الأمراء مساكنهم بها فى العهود اللاحقة، ولعل أشهر من فعل ذلك كان الأمير أزبك - أتابك العسكر فى عهد السلطان قايتباى - والذى أسس الحى الذى حمل اسمه "الأزبكية"، والأمير يشبك الدوادار - من عهد نفس السلطان - الذى أقامة قبة فى منطقة المطرية وشجع الناس على غرس الأشجار وإقامة الحدائق حولها فعُرِفَت بـ "حدائق القبة".. وغيرهما، وكانت من عادة المماليك "مَد الأسمطة" - أى إقامة موائد الطعام - فكان بعضها - حسب نوعه وبروتوكوله الخاص - لا يُمنَع عنها العامة فيتقدمون ويأخذون الطعام والأمراء على الموائد، وكان بعضهم يتجول ليلا فى محيط داره بصحبة بعض الجند والمشاعلية "المسؤولون عن إشعار مصابيح ومشاعل الليل" فى ما يشبه دوريات الحراسة الليلية، وكان يصحبهم سقاء وبَناء بعدة الهدم، كى يتدخلوا حال نشوب حريق.

فلم يكونوا طبقة منعزلة إلى الحد الذى يصوره البعض، وإن كانت لهم خصوصيتهم فى حياتهم أسوة بمختلف الطبقات الحاكمة عبر التاريخ.

يستدعى هذا الحديث سؤالا مهما: كيف استقبل المصريون حكم المماليك؟ بشكل أوضح: كيف كانت ردة فعلهم على حكم فئة «جرى عليها الرِق»؟

لم يكن استقرار الحكم للمماليك سهلا، فبعد وفاة السلطان الأيوبى الصالح نجم الدين ثم مقتل ابنه توران شاه، قرر المماليك أن يولوا السيدة شجر الدر - أرملة الصالح نجم الدين - السلطنة، فى سابقة مثيرة، وسرعان ما ثار العوام والفقهاء رافضين فكرة سلطنة امرأة، فحاولت السيدة شجر الدر تهدئة ثائرتهم بزواجها من الأمير عز الدين أيبك والتنازل له - شكليا -عن العرش.

لكن ثورة المصريون لم تهدأ وإن تحولت من رفض لحكم امرأة إلى رفض لحكم رجل كان يوما ما عبدا مملوكا، هذا رغم حقيقة أن السلطان الراحل نجم الدين أيوب كان قد أقام سابقا مزادا علنيا باع فيه أمراءه واشتراهم لصالح بيت المال ثم أعتقهم، ليكون مسموحا لهم شرعا تولى الإمارة، بناء على فتوى من الفقيه العز بن عبدالسلام.

فى القاهرة، عبّر العامة عن رفضهم بالتظاهر أمام موكب أيبك والصياح فى وجهه: "نريد سلطانا حرا على الفطرة"، وشحذوا سلاح السخرية المصرية اللاذعة باستيقافهم له وسؤاله: "لمن ينتسب مولانا؟" فى تعريض بالأصول المجهولة للمماليك.

وفى صعيد مصر، ثارت القبائل العربية بقيادة الشريف حصن الدين ثعلب - من قبيلة الجعافرة - الذى جرد 12000 فارس لمحاربة المماليك، ولم يتمكن أيبك من إخماد تلك الثورة إلا بإيقاع زعمائها فى فخ بدعوتهم للتفاوض ثم القبض عليهم.

بالتزامن مع ذلك كان المؤسسون للحكم المملوكى يخوضون صراعا داميا فيما بينهم - وهى حالة ميزت هذا العصر بالذات - فاغتال أيبك منافسه أقطاى، واغتالت شجر الدر أيبك، ثم أطاح قطز بها وسلمها لمقتلها على يد أرملة أيبك-زوجته الأولى - التى كان قد طلقها بأمر شجر الدر ثم ردها لعصمته لاحقا.

لكن طارئا ما بدّل موقف المصريين، فقد جاء النذير من الشرق بأن المغول بقيادة هولاكو ومعاونه كتبغا قد اجتاحوا العراق، وأسقطوا الخلافة العباسية فى بغداد فى العام 1258م، ورأوا رسل هولاكو فى القاهرة ينذرون أهل مصر أن إما الخضوع أو الدمار، فأدركوا أن على هذا الصراع أن يتوقف إلى حين التصدى لذلك الخطر الداهم الذى لم يروا مثله، وأدرك المماليك كذلك أن عليهم إزاحة خلافاتهم جانبا والاتحاد فى مواجهة ذلك الغازى الرهيب، وهى - تأجيل الصراعات والاتحاد فى مواجهة الخطر - أيضا سمة ميزت علاقة المماليك بعضهم ببعض.

وبخروج الجيش المصرى بقيادة السلطان المظفر سيف الدين قطز إلى فلسطين لملاقاة المغول قبل أن يطرقوا حدود مصر، ثم رجوع الجيش منتصرا وعلى رأسه السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس - الذى تخلص من قطز فى طريق العودة - كان المماليك قد اكتسبوا عند المصريين نفس الشرعية التى كانت لأسلافهم الأيوبيين، وهى شرعية "جهاد العدو".

وللحديث بقية إن شاء الله فى المقالات القادمة.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب


الموضوعات المتعلقة

فى عالم المماليك "1"

الإثنين، 01 ديسمبر 2025 10:21 ص

الرجوع الى أعلى الصفحة