فارس ضخم الجثة، أحمر الوجه، يرتدى ثيابا فاخرة ويمتطى جوادا فارها مطهما، وينهال بالكرباج على ظهر مجموعة من الفلاحين البؤساء وهو يطلق من أعماق حلقه ضحكات سادية متعاظمة مختلطة بشتائم بعربية ركيكة تتخللها كلمة "حرفوش".
هذه - للأسف الشديد - هى الصورة النمطية الشائعة لدى كثير من الناس عن المماليك.. أنهم حفنة من الطغاة الغرباء الذين "احتلوا" مصر وتسلطوا على شعبها بالسيوف والسياط، وهى صورة غذتها بعض النماذج الأدبية والدرامية التى جفت حلوقنا معشر المشتغلين بالتاريخ ونحن نقول إنها لا تصلح كمصادر للمعرفة التاريخية الدقيقة، فضلا عن ولع بعض أصحاب الأمزجة اليسارية الثورية إلى إقحام أفكارهم السياسية فى قراءة التاريخ بشكل يؤدى - بطبيعة الحال - لصب النقمة على أية فئة حاكمة بغض النظر عن السياق التاريخى وظروف وملابسات كل حالة على حِدة.
تلك الصورة ظالمة من عدة جوانب، فأولا لم يكن المماليك "أجانب محتلين" كما يشاع، وثانيا لا يمكن أن نعمم عليهم أنهم كانوا "فئة مترفة متكبرة متجبرة منعزلة فاسدة"، بل ولقد مثل عصرهم العصر الذهبى لاحتضان مصر الوجود الأخير للحضارة العربية والإسلامية، قبل أن يقضى المحتل العثمانى على تلك الحضارة العظيمة.
يحتاج الأمر أولا إلى تمهيد لإجابة بعض الأسئلة مثل: من هو المملوك؟ وما هو نظام المماليك؟ ومن أين أتوا؟ وهل هم مصريون أم أجانب؟
فلنرجع بالزمن إلى العصر العباسى الأول الذى حكم الدولة فيه خلفاء أقوياء كالمنصور والمهدى والرشيد والمأمون والمعتصم، وارتبط عهدهم بالاعتماد بشكل كبير على العناصر غير العربية فى إدارة وحكم البلاد، فى ذلك الوقت كانت الإمبراطورية الإسلامية تمتد لوسط آسيا حيث تقوم الآن بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق مثل أوزبكستان وكازاخستان وتركمانستان وغيرها، وكانت تلك المنطقة مصدرا جيدا للعبيد من العرقية التركية، أو الذين وُصِفوا بـ"المماليك" لتمييزهم عن العبيد من العرقيات الأفريقية سمراء البشرة.
سرعان ما لاحظ العباسيون تميز هؤلاء التُرك بالبأس والمهارة الفطرية فى القتال فضلا عن قوة التحمل والانضباط فى طاعة الأوامر والتفانى فى خدمة ساداتهم، فتشكلت منهم تدريجيا الفرق المسلحة لحماية الخليفة وقصره وعاصمته، حتى قرر الخليفة المعتصم بالله - وكانت أمه من العرق التركى - أن يعتمد عليهم بالكامل فى جيش الدولة، فاستكثر من شرائهم وتدريبهم وتسليحهم، ومنحهم النفوذ والثقة، ولما ضاق بهم أهل بغداد قرر المعتصم بالله أن ينقل عاصمته فأقام مدينة "سُر من رأى" ونقل إليها جنده ومؤسسات حكمه بعد قرون عندما تدهور حال تلك المدينة أطلق عليها الناس اسم "ساء من رأى" ثم حُرِفَت إلى "سامراء".
منذ عهد المعتصم بالله أصبح الجند والقادة التُرك هم عماد الدولة، واتسع نفوذهم حتى اشتركوا لاحقا فى مؤامرة لاغتيال الخليفة المتوكل على الله - دبرها ابنه المنتصر بالله - ثم اغتالوا المنتصر بالله نفسه، وتسلطوا على الخلافة فراحوا بعد ذلك يتحكمون بتعيين الخلفاء وخلعهم بل وحبسهم وقتلهم لو لزم الأمر، ولم يعد للخليفة العباسى من أمر إلا "أن يقال له أمير المؤمنين"، بل وأقام التُرك دولا مستقلة، ارتبطت اسميا فقط بالخلافة العباسية، أشهرها الدولتان الطولونية والأخشيدية فى مصر والشام.
هكذا انتقل المملوك من العبودية إلى الجندية ومن الجندية إلى القيادة ومن القيادة إلى إقامة وحكم الدول، وهى سُنة سار عليها المماليك بعد ذلك.
خلال العصر العباسى الثانى الذى شهد تفكك الإمبراطورية العباسية إلى دول مستقلة لا يربطها بالخلافة سوى الولاء الاسمى، قامت فى كنف ذلك الولاء دول كانت كل منها تقوم وتنهض وثم تشيخ وتسلم قبل أن تموت الراية للتالية لها فى الدور، فلقد أقام السلاجقة، وهم أتراك من عشيرة الأوغوز، دولتهم فى فارس وخراسان والعراق، وامتدت لتشمل الشام والأناضول، وعندما ساد الشقاق بين السلاجقة واقتتلوا ممزقين دولتهم بين ممالك متناحرة انبثقت عنهم فى الموصل وحلب دولة الزنكيين، والتى تحمل اسمها نسبة لقائد من العرقية التركية هو عماد الدين زنكى، ثم عندما توفى نور الدين محمود بن عماد الدين زنكى عانت دولة الزنكيين من نفس التمزق ليقيم الكردى صلاح الدين يوسف بن أيوب دولة الأيوبيين، التى ورثت الدولة الفاطمية فى مصر، والدولة الزنكية فى الشام والموصل، وارتكب صلاح الدين خطأ فادحا بتقطيعه أوصال دولته قبل موته وتوريثها لأبنائه وأبناء إخوته وأخيه العادل الذى قام فأعاد توحيد تلك الدولة الكبيرة التى ضمت مصر والشام وجنوب شرقى الأناضول، وجعل القاهرة عاصمة لها.
طوال تلك العصور كان المقاتل المملوكى جزءا مهما من الجيوش إلى جانب العناصر الأخرى مثل السودان "وهى غير دولة السودان الشقيقة حاليا ف«بلاد السودان" فى الكتب القديمة مقصود بها المنطقة الأفريقية الممتدة من البحر الأحمر حتى المحيط الأطلنطى جنوب الصحراء الكبرى، والكُرد والأرمن وكذلك قبائل العرب.
وعندما دخل البيت الأيوبى فى طور الصراعات الداخلية، وكانت الغلبة - نسبيا - للسلطان الصالح نجم الدين أيوب، أدرك هذا الأخير أن المماليك كان لهم النصيب الأكبر من أسباب تغلبه على أعدائه، فاستكثر منهم وجعل منهم وزراءه وحاشيته وأركان حربه، وأقام لهم قاعدة فى جزيرة الروضة فى نيل مصر، ولما كان أهل مصر يسمون النيل "بحر النيل" فقد عُرِفَ هؤلاء المماليك بـ"المماليك البحرية".
وعندما توفى السلطان الصالح نجم الدين أيوب وهو يحارب الحملة الصليبية السابعة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع، والتى احتلت دمياط وهددت المنصورة، أدار المماليك بقيادة السيدة شجر الدر - أرملة السلطان - الأزمة، فأرسلت شجر الدر إلى توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب تستدعيه لتسلم عرش أبيه، وقاد المماليك العمليات العسكرية ضد الفرنجة حتى نجحوا فى هزيمتهم وأسر ملكهم لويس التاسع، وأدارت شجر الدر المفاوضات مع الفرنجة، ثم إذ أظهر توران شاه الغدر لمماليك أبيه وأرملته شجر الدر وأراد البطش بهم، دبروا قتله فاغتالوه ثم راحوا يدبرون أمرهم وقد أدركوا أن الدولة قد صارت بلا حاكم، فاستقر الأمر على تولية شجر الدر، فى واقعة فريدة من نوعها فى التاريخ الإسلامى، ولأن شجر الدُر كانت فى الأصل جارية أرمينية - وقيل تركية - أحبها الصالح نجم الدين أيوب ثم أعتقها وتزوجها، فمن سلطنتها يمكننا أن نبدأ احتساب العصر المملوكى الذى بدأ فى العام 1250م وانتهى فى العام 1517م.
وللحديث بقية فى المقالات القادمة إن شاء الله.