غدًا تحتفل القاهرة وتحديدًا حى السيدة نفيسة، بالليلة الكبيرة لمولد السيدة نفيسة فى مشهد اعتاد المصريون تكراره عامًا بعد عام منذ أكثر من ألف ومئتى عام تتزين الشوارع، وتفوح روائح البخور حول مسجد وضريح السيدة نفيسة الذى يمثل واحدة من أهم محطات الروحانيات المصرية، وموضع محبة خاصة فى الوجدان الشعبى والدينى، لما لها من مكانة راسخة وتاريخ علمي وروحي معًا.
مولدها ونسبها الشريف
وُلدت السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عام 145 هـ / 762 م في المدينة المنورة، فهي حفيدة الإمام الحسن بن علي، ويمتد نسبها إلى بيت النبوة من جهة الأب والأم على السواء، إذ كانت والدتها "زينب بنت الحسن" من آل البيت أيضًا، وقد اشتهرت منذ صغرها بالعلم والورع والزهد، حتى لقبت مبكرًا بـ"نفيسة العلم"، وهو لقب ورد فى عدد من كتب الطبقات والتراجم، بينها سير أعلام النبلاء للذهبي، وتهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني.
مكانتها العلمية
رغم شهرة الضريح اليوم كأحد أهم مقامات آل البيت في مصر، فإن شخصية السيدة نفيسة كانت فى الأصل شخصية علمية شرعية تركز على القرآن والحديث والفقه، يذكر الإمام الذهبي في تراجمه أنها كانت تحفظ القرآن كاملاً وهي ابنة 8 سنوات، وأنها أتمت قراءته أكثر من مائة مرة في حياتها، وكانت تدرس العلم في منزلها بالمدينة ثم في القاهرة لاحقًا، كما عُرف عنها شدة الاجتهاد في العبادة، فقد كانت تصوم أغلب أيام العام وتصلي طويلاً بالليل.
ولعل أهم ما ورد عنها علميًا ما نقله المؤرخون عن تردد الإمام الشافعي عليها في مصر، إذ كان يزورها ويستشيرها في مسائل فقهية، ويجل علمها وورعها، ويذكر ابن حجر في الدرر الكامنة أن الشافعي أوصى أن تُصلي عليه السيدة نفيسة بعد وفاته، وأن يُحمل جثمانه إلى بيتها لكي تدعو له، وقد تحققت وصيته بالفعل عام 204 هـ/820 م.
وهذه العلاقة العلمية بين إمام من أكبر أئمة الفقه وامرأة من آل البيت تعكس المكانة العلمية الحقيقية للسيدة نفيسة، بعيدًا عن التوظيف الشعبي الذي طغى لاحقًا.
رحلتها إلى مصر
وصلت السيدة نفيسة إلى مصر في عام 193 هـ / 809 م مع زوجها إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق، بدعوة من المصريين ومحبتهم لآل البيت، وسكنت أولاً في منطقة "درب السباع" بالقرب من مشهد السيدة عائشة، ثم انتقلت إلى منزلها بمنطقة الخلفية.
تميزت السنوات التي عاشتها في مصر — وهي نحو ثلاثين عامًا — بازدياد نفوذها الروحي والاجتماعي والعلمي، فقد اجتمع حولها طلاب العلم والنساء والفقراء، وكانت تقيم دروسًا في التفسير والحديث والوعظ، وقد ذاع صيتها إلى حد أن كان الناس يأتون إليها من مختلف أقاليم مصر، طلبًا للدعاء أو للاستشارة.
وفاتها وضريحها
توفيت السيدة نفيسة ليلة الجمعة 208 هـ / 824 م في القاهرة، وحدث خلاف حول نقل جثمانها إلى المدينة المنورة لدفنه بالبقيع، لكنها وفق ما تذكره المصادر التاريخية ومنها الخطط المقريزية، كانت قد أوصت بدفنها في مصر، فاستجاب المصريون لوصيتها، ودفنوها في بيتها الذي صار لاحقًا مقامًا ومسجدًا.
تتابعت عناية حكّام مصر بالضريح، جُدد في العصر الفاطمي، ثم في العصر الأيوبي والمملوكي، ثم أعيد بناؤه في عهد الخديوى إسماعيل، واليوم يعد المسجد واحدًا من المزارات الكبرى التي تجمع بين الوظيفة الدينية والتاريخية والمعمارية.
مكانتها عند المصريين
يتميز المصريون، في علاقاتهم بآل البيت، بمزيج من المحبة الفطرية والارتباط التاريخي والرمزي، والسيدة نفيسة تحديدًا تحتل مكانة فريدة لأسباب عدة:
حضورها في الوجدان الشعبي
ترتبط سيرتها بالكرم، والزهد، والرحمة، ونصرة المظلومين، وهي صفات رسخت صورتها كـ"أم روحية" للمصريين، خصوصًا الفقراء، وقد اشتهر عنها العطاء السري والدعم للفقراء، حتى وهي في أشد حالات المرض.
اقترانها بمصر عبر الدفن والإقامة
على خلاف شخصيات أخرى من آل البيت جاءوا إلى مصر ثم غادروها، عاشت السيدة نفيسة في القاهرة سنوات طويلة، وماتت في مصر ودُفنت فيها، فصار مقامها امتدادًا تاريخيًا لوجود آل البيت في البلاد.
مكانتها العلمية لا الصوفية فقط
بينما يحضر الجانب الروحي في الزيارات الشعبية، فإن القارئ في تاريخها يجد أن شهرتها العلمية كانت سابقة لشهرتها الصوفية، وهذا يُكسبها احترام التيارات الدينية والفكرية المختلفة، فهي ليست مجرد "ضريح"، بل عالمة من آل البيت.
ارتباط مقامها بطقسيات المولد
يحتفل المصريون كل عام بمولدها، فيما تُقام "الليلة الكبيرة" في أجواء شعبية وروحية مميزة، خيام الطرق الصوفية، حلقات الذكر، موائد الطعام، الباعة المتجولون، الأطفال، والأغاني التراثية.
هذا الاحتفال، الذي تصفه دراسات الفلكلور بأنه "طقس اجتماعي شامل"، يرسخ علاقتها بالمصريين كجزء من الهوية المحلية.
السيدة نفيسة في الخطاب الديني الرسمي
تؤكد دار الإفتاء ووزارة الأوقاف والأزهر الشريف، في بيانات مختلفة، على مكانتها العلمية والفقهية، وعلى احترام المصريين لرموز آل البيت من دون غلوّ، وتستشهد مؤلفات التراث الديني بها بوصفها نموذجًا للمرأة العالمة الزاهدة.