بيشوى رمزى

جماعات الظلام.. وإعادة تدوير الإرهاب

الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025 09:00 ص


هجمات متزامنة، ضربت ثلاثة مدن، تنتمي كل منها إلى قارة مختلفة، ولم يفصل بينهم سوى ساعات معدودة، تراوحت بين حادثي إطلاق نار، نالا الجزء الأكبر من الزخم العالمي، نظرا لما أسفرت عنه من ضحايا، فكان الأول بولاية رود آيلاند الأمريكية، مستهدفا جامعة براون، والثاني في مدينة سيدني الاسترالية، في حين لم يلتفت الكثيرون إلى حادث دهس، استهدف أحد أسواق الكريسماس، في ألمانيا، دون أن يخلف أي ضحايا، وهو تزامن ربما غير مقصود، وإنما يعكس حقيقة مفادها تنامي نشاط الجماعات المتطرفة، في اللحظة الراهنة، وذلك عبر مسار داخلي، يعتمد في الأساس على عناصر موجودة على الأرض، تعمل على التحريض، وبث الأفكار المغلوطة، وآخر عابر للقارات، تقوم به التنظيمات الكبرى، على غرار داعش وغيرها، عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة.

توقيت الأحداث الثلاثة، يبدو ملفتا، ففي الوقت الذي تناول فيه قطاع كبير من المحللين أعياد الحانوكا، على اعتبار أن المستهدفين كانوا يهودا يحتفلون بالمناسبة الدينية، وهو ما يتماهى جزئيا، فيما يتعلق بارتباط الأحداث بالمناسبات الدينية، مع حادث ألمانيا، والذي استهدف سوقا للكريسماس، وهو الأمر الذي يمثل تكرارا لأحداث مشابهة ضربت مدن أوروبية في العقد الماضي، إلا أن ثمة ظرفا سياسيا لا ينبغي أن نتجاهله، في إطار تحليل الهجمات الثلاثة، يتجلى في حملة الاستهداف الدولي لتنظيم الإخوان، والذي انطلقت من الولايات المتحدة، والتي قررت مؤخرا حظرها، وملاحقة عناصرها، وهو الإجراء الذي يعكس إدراكا عميقا بخطورة ما تمثل مثل هذه التنظيمات على الحالة الأمنية والمجتمعية.

الهجمات الأخيرة تكشف حقيقة ملحة، تدور في جوهرها حول أن صناعة الإرهابي لم تعد بحاجة إلى تنشئة وتأسيس، ولم تعد تتطلب ولاء لأمير أو انتماء لتنظيم، وإنما تحولت إلى و عمل تضيع على إثره أرواح عشرات البشر، بينما يثير الهلع في نفوس الملايين منهم.فكرة قابلة للعولمة، فيلتقطها أي قاطن لهذا الكوكب، أيا كان موقعه، ويعتنقها في "نزوة" انتحارية، لينفذ مخططا تخريبيا، لن يخدمه شخصيا، ولم يشارك من الأساس في صياغته، وإنما تلاقت الفكرة الملقاة في الفضاء الإلكتروني مع حالته للحظة، فدفعته دفعا نح

السطور سالفة الذكر لا تبرئ التنظيمات، وإنما تلمس نهجا جديدا في إدارتهم للعنف، فهي تسعى إلى إعادة تدوير الإرهاب، عبر الأفكار، وليس بالتسليح والتخطيط المنظم، بينما باتت تعتمد في تجنيدها للأفراد، ليس على معتنقي المنهج الذي دشنه أباءهم الأوائل، منذ حسن البنا وسيد قطب وغيرهم، ولكن بات الاعتماد كليا على أفراد عاديين لا ينتمون لهم، فصاروا أشبه بدول تعتمد على المرتزقة في خوض معاركهم، بينما تحتفظ بجيوشها وذخائرها، لحروب أكبر في المستقبل، وهو الأمر الذي يمثل ذروة التهديد، حيث تبقى الدول والمجتمعات في مواجهة أشبه بحرب استنزاف، عبر عمليات تخريبية، من قبل مواطنين، لا ينتمون، ولا ينشطون مع تنظيمات محظورة، وبالتالي لا يكون هناك أي محاذير مسبقة تجاههم، بينما تمثل هذه المرحلة تمهيدا لمعركة أكبر، حال فشل العالم في القضاء على تلك التنظيمات في المستقبل.

المرحلة الراهنة في معركة التنظيمات المتطرفة، تحمل أهدافا واضحة، أبرزها استنزاف قدرات الدول، والانتقام للخطوات الجادة التي اتخذتها في إطار ملاحقتها، بينما تفتح الباب أمامها للتنصل من أي مسؤولية، فعندما ينتشر فيديو في الفضاء الإلكتروني، عن كيفية صناعة قنبلة، ويلتقطها مراهق، ربما لا يرتبط بالتنظيم، سواء فكريا أو تنظيميا، أو ربما لا يعتنق نفس الدين، ويقوم باستخدامها للانتقام أو الثأر من المجتمع، فالتنظيم بيقى نظريا برئ، ولكنه في واقع الأمر حقق الهدف الذي يسعى إليه.

الخطورة الحقيقية التي تجسدها تلك التنظيمات، هي قدرتها على اختراق المناطق الهشة في المجتمعات، وهو ما يمكن استلهامه من دروس منطقتنا خلال السنوات الماضية، وبالأخص خلال العقد الماضي، فنشطت أكثر التنظيمات عنفا، في المناطق ذات الطبيعة الطائفية، بينما لم تصمد إطلاقا في الدول ذات الجذور التوافقية، بينما كانت تعتمد في تجنيد عناصرها على المهمشين، سواء سياسيا أو اقتصاديا أو جغرافيا، إلا أن التجنيد في دولنا كان مقيدا بانتماء وولاء وربما "بيعة"، في حين تبقى الأمور أكثر مرونة في الخارج، فالأمر لا يكلف سوى فضاء إلكتروني يلتقي فيه الخطاب مع مشاعر المحبطين، دون أدنى درجات الارتباط المباشر، وهو ما يجعل المهمة أسهل نسبيا لجماعات الظلام، خاصة وأن ثمة قطاعات من المهمشين باتوا يعانون جراء أوضاع اقتصادية صعبة، وخطابات عنصرية، وسياسات إقصائية، خاصة مع صعود تيارات اليمين المتطرف.

الغرب، في واقع الأمر، ساهم بصورة كبيرة في خلق البيئة المواتية لتلك الحالة القابلة للانفجار على مدار عقود، عندما سعى لخلق صراع أيديولوجي بديل لحقبة الحرب الباردة، يقوم على فلسفة تصادم الحضارات، والذي ولد من رحمها ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، والأخطر أن "الفوبيا" تجاوزت الدين الإسلامي والمسلمين، نحو فئات أخرى، منها المهاجرين، وأصحاب البشرة الملونة، وغيرهم، وهو ما يشكل قنابل مجتمعية موقوتة بإمكانها الانفجار في أي لحظة، ناهيك عما آلت إليه الظروف من أوضاع اقتصادية صعبة، وضعت قطاع كبيرة من المواطنين على حافة التمرد، جراء الغضب الناجم عن سياسات يرونها سببا في الإضرار بهم، بالإضافة إلى أوضاع دولية، واستقطاب عالمي يؤجج الصراع، لا يمكن فصله بأي حال من الأحوال عن الأحداث الفردية، على غرار العلاقة بين الأوضاع في غزة، من جانب، واستهداف اليهود في سيدني، من جانب آخر.

وهنا يمكننا القول بأن الإرهاب لم يعد مجرد عمل يقوم به أفراد مرتبطون بتنظيمات عسكرية، بل أصبح ظاهرة قابلة للانتشار بسهولة عبر الفضاء الرقمي، في إطار ظروف اجتماعية وسياسية معقدة، ومع تطور هذا الخطر، تتضح الحاجة الملحة إلى إدراك أعمق للمسؤوليات التي تتحملها المجتمعات والدول في مواجهة هذا النوع الجديد من العنف، فبينما تتضاءل الحدود بين الواقع والفضاء الافتراضي، تظل المجتمعات في اختبار مستمر، ليس فقط في قدرتها على التصدي للهجمات العنيفة، بل في قدرتها على معالجة جذور التوترات التي تغذي هذه الظاهرة.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة