حضرتُ الحفل الأخير لكورال سان جوزيف بمناسبة يوبيله الفضي، لم أشعر أنني أمام احتفال بمرور خمسةٍ وعشرين عامًا بقدر ما كنت شاهدة على تجربة إنسانية كاملة تشكّلت بالصوت والصبر والالتزام. لم يكن الغناء استعادة لأعمال قديمة، أو لترانيم رددناها مع فريق الكورال من قبل، بل اعترافًا صامتًا بمسار طويل استطاع أن يصنع حضورًا مستمرًا في وجدان جمهوره، رغم تغيّر الأزمنة.
تزامنت الحفلة مع احتفالات الكريسماس وأعياد الميلاد، فجاءت الأجواء محمّلة بدفء خاص. تعاقبت الترانيم بهدوء محسوب، لنحو 20 ترنيمة استمعنا إلى Christmas Melody بإيقاعها الحميمي، وإلى هلليلويا افرحي بما تحمله من فرح جماعي، ثم إلى منذ القديم في قرية التي أعادت الميلاد إلى معناه الإنساني الأول، و.. غيرها، امتزجت أصوات الكبار والأطفال دون استعراض، في تناغم بدا أقرب إلى المشاركة منه إلى الأداء، كأن كل صوت يعرف مكانه ويثق في الآخر.
في تلك اللحظة، استعدتُ فكرة البداية. خمسة وعشرون عامًا مرّت منذ أول "كونشيرتو" لحفل الميلاد، الذي شكّل بذرة قيام كورال سان جوزيف، كمجموعة مختارة من محبي الموسيقى، لا من المتخصصين، جمعهم الشغف والرغبة في الغناء المشترك أكثر مما جمعتهم الدراسة الأكاديمية. هذه الروح التأسيسية، في رأيي، هي ما منح الكورال قدرته على الاستمرار، وعلى الحفاظ على صدق التجربة رغم اتساعها.
كورال سان جوزيف، التابع لكنيسة القديس يوسف الكاثوليكية بوسط القاهرة، ليس مجرد كورال كنسي يؤدي تراتيل موسمية. إنه كيان روحي وفني راكم حضوره عبر سنوات، وأصبح علامة مهمة داخل الكنيسة الكاثوليكية في مصر، خاصة من خلال حفلاته السنوية الكبرى في ومنها أعياد الميلاد، التي باتت موعدًا ينتظره جمهور واسع، بعضه يأتي بدافع الإيمان، وبعضه بدافع البحث عن لحظة جمال صافية.
يقود الكورال الأب بطرس دانيال بدأب وحماس وإرادة كبيرة في التجديد، كل ذلك بحضور هادئ يمنح الثقة، وتشاركه القيادة الموسيقية المايسترو ماجدولين ميشيل، التي نجحت في بناء صوت جماعي متماسك، يحترم بساطة التكوين الأول ويطوّرها دون أن يفقدها روحها. هذا التوازن بين الرؤية الروحية والتنظيم الموسيقي بدا واضحًا في تفاصيل الأداء وفي العلاقة بين الأصوات.
ما يلفتني في تجربة كورال سان جوزيف هو طابعه الإنساني الشامل. فهو يضم عددًا كبيرًا من المرنمين من الكبار والأطفال، إلى جانب عازفين، كما يستقبل في حفلاته شخصيات عامة ووجوهًا معروفة، دون أن يتحول إلى مساحة استعراضية. على العكس، يظل الغناء فعل مشاركة، لا تنافس، حيث يُمنح لكل صوت حقه داخل نسيج جماعي أكبر.
تجاوز تأثير الكورال حدود الكنيسة إلى المجال العام، من خلال مشاركته في احتفالات رسمية كبرى، أبرزها استقباله للبابا فرنسيس في مصر عام 2017. في مثل هذه اللحظات، أدركت أن الموسيقى هنا لا تُستخدم كإجراء شكلي، بل كلغة سلام قادرة على اختصار الخطاب، وبناء جسور إنسانية دون ضجيج.
هنا ومن موقع المتلقي لا الناقدة، أرى أن كورال سان جوزيف يقدم نموذجًا نادرًا لما يمكن أن يفعله الفن حين يُدار برؤية طويلة النفس. إنه تجربة تثبت أن الصوت، حين يُمنح معنى، يمكنه أن يصنع ذاكرة، وأن يمنح الأمان، وأن يترك أثرًا يتجاوز التصفيق إلى عمق الشعور الإنساني.