ليس فى غزة ما يدعو للاحتفال بأى شىء على الإطلاق؛ ولو كان ذكرى تأسيس حماس المرتبطة زمنيا بسيرة الانتفاضة الأولى «أطفال الحجارة».
أعياد الميلاد بطبيعتها مناسبات بهيجة، للأفراد كما للكيانات ذات الشخصية الاعتبارية، والمعنى الذى ترمى إليه بالضرورة إحياء لحظة منيرة ينبلج فيها الوجود من العدم، ويقف المحتفل على ماضيه وحاضره دفعة واحدة، مستضيئا بالتجارب وكل ما تنطوى عليه نجاحات وإخفاقات، ومتوثبا إلى مستقبل لا يكرر سابقة الخطايا، ولا يبقى فيه الوعى على حاله الرتيبة وغير المتصالحة مع الزمن وعطاياه، رديئها قبل جيّدها، وما يتطلب الاعتذار منها قبل ما يجلب الافتخار.
والمؤسف أن هذا ما لم يُرَ من الحركة فى وقوفها على طلل الحكاية، بانفصالٍ عظيم عن الواقع، كمَن يُولِّى ظهره للمأساة، ويستدبر أمرَه بانتقائية يُحرّكها الهوى، بعدما عَزّ عليه استقبال حقائقه بموضوعية يضبطها التعقُّل والتدبُّر والاعتدال.
تفجرت غضبة الشارع الغزى فى ديسمبر من العام 1987، بعد حادثة دهس أودت بحياة عدد من العمال على حاجز إيريز. وبعد أيام من اندلاعها تجمّعت عناصر الإخوان فى بنية تنظيمية تحت قيادة الشيخ أحمد ياسين، حسبما يروى الحماسيون سيرةَ جماعتهم اتصالا ببيان التأسيس المُؤرَّخ فى منتصف الشهر نفسه؛ وإن تأخر التشكل الفعلى عن ذلك.
المهم أنهم اكتسبوا عنوانهم الجديد، بديلا عن الجمعية الخيرية الدينية الاجتماعية «المركز الإسلامى»، وكانت الفرع الإخوانى فى فلسطين منذ أوائل سنوات السبعينيات.
وبمجاراة القصة كما يسردها أصحابها؛ فقد جاءوا متأخرين كثيرا عن القضية عموما، وعن فعل المقاومة على وجه خاص، بل إنهم شقوا طريقهم فى زخم الانفجار الشعبى، وكانوا تالين للشارع وتابعين لموجته، لا مُوجّهين لها أو قادة للغاضبين الذين ظلّوا لنحو ست سنوات يخوضون جولتهم بصدور عارية، أفضت إلى تقوية السياسة ومُؤازرة الكُتل النظامية للفعل المقاوم؛ فكان ختامها باتفاق أوسلو، وعودة منظمة التحرير إلى الوطن بعد شتات طويل.
تقاعس الفصيل الناشئ عن الالتحاق بالركب، وعزلَ نفسَه عنه بقصديّةٍ واضحة. أسقط القيادة الجماهيرية أوّلاً بالانقطاع عنها والتعالى عليها، ثم تحدَّى الشرعية الوطنية بالقطيعة مع المُنظّمة، وعدم الاعتراف بها أو الدخول فى ميثاقها وتحت مظلتها.
فكأنهم ميّزوا أنفسهم عن العنف والسياسة الوطنيَّين على حدٍّ سواء، ومَرّروا العقد التالى بأقل قدر من الظهور وإثارة الأزمات؛ لأنهم ما كانوا قادرين على المناطحة ابتداء، ولا فى جعبتهم ما يُوازى كاريزما عرفات ورمزيته فى مسار النضال، وهو الذى امتشق البندقية عقودًا قبل أن يجلس إلى طاولة التفاوض أو يُوقِّع الاتفاقات؛ فلم تكن المزايدة عليه مُتاحةً أصلاً، ولا المنافسة معه مأمونة العاقبة.
وكان طبيعيا أن تحين ساعتهم المثالية بوفاة الرجل/ العَقَبة، وتتضخَّم من بعده أطماعهم فى السيادة والهيمنة.
جرى ما يعرفه الجميع عن الانتخابات والانقلاب، ثم استقطاع غزة من جسد فلسطين الذى لم تلتئم أعضاؤه من الأصل. تفرّعت الامتدادات وسادت الأهواء، وتنقَّل قادة الفصيل فى ولاءاتهم بين عواصم واتجاهات شتى، بدت مُرتبكةً حينًا، ومُتناقضةً وغير مفهومة أحيانًا؛ لكنها استقرّت فى الأخير على جناحين يتنازعان الولاية على الوكيل فى إمارته الضيقة: العثمانية الجديدة مخلوطة بروائح النشأة ودعوة المُؤسِّس الأكبر حسن البنا، والشيعية المسلحة تحت راية فارسية تُبشّر بالوصول إلى القدس من كل العواصم العربية الرخوة، وبكل الطرق المحتملة إلا المواجهة المباشرة.
سارت الأمور بين تبعية اختيارية أو استتباع إجبارى، وأفضت فى خواتيمها إلى ما تعيشه غزة اليوم، جرّاء مغامرة يحيى السنوار بفردية كاملة أو إملاء خارجى، مع مُحصِّلة واحدة تتطابق فيه المعانى بين مفردتى النكبة والطوفان.
وفى أىِّ تصوُّرٍ وطنىٍّ عاقل، كان يُفتَرَض أن تُحيى الحركةُ ذكرى تأسيسها بمراجعة واسعة المدى لما أحدثته فى بنية النضال الفلسطينى، وما جرّته على الوطن وأهله من فُرقة آلت إلى خراب عميم. لكنها على العكس من مقتضى الحال؛ قررت أن تحتفل بعيد ميلادها مع كعكة مزدحمة بالشموع المضيئة، كأنّ شيئًا لم يكن، وكأن غزة ليست غارقةً فى ظلامٍ دامس وبين ركام من الردم والأشلاء، أو أن الضحايا قضوا فى حوادث سير، ولا مُتَّسع للبكاء عليهم أو التواضع أمام دمائهم المهدرة دون ضرورة أو منفعة.
صلَفٌ عظيم لا تُحسَد عليه، ذاك الذى يسمح لها بإصدار بيان عن المناسبة، وأن تزعم فيه بفجاجة ينقصها الرُّشدُ والضمير أن طوفان الأقصى سيبقى «محطّة شامخة فى مسيرة شعبنا نحو الحرية والاستقلال، ومَعلمًا راسخًا لبداية حقيقية لدحر الاحتلال وزواله عن أرضنا». يُقال هذا على جثامين سبعين ألفًا، والمُحتل يقضم نصف القطاع، وليس فى مقدور الحركة أن تحمى نصفه الباقى.
كان خليل الحية أكثر حصافة من جماعته، إذ قال فى كلمته الاحتفالية إنّ المقاومة وسلاحها حقٌ مشروع تكفله القوانين الدولية للشعوب تحت الاحتلال؛ لكنهم منفتحون على دراسة أية مقترحات تحافظ على الحق مع ضمان إقامة الدولة وتقرير المصير.
تبدو اللغة مُتخشِّبة نوعًا ما؛ ربما لأن هذا أقصى ما يحتمله السياق أو تقبله الرؤوس الحامية فى الحظيرة الحماسية؛ لكنه يفتح كوّة فى الجدار لاستنقاذ ما يُمكن إنقاذه، وألا تُقدَّم البنادق على الأرواح، مثلما تقدّمت الخنادق والفنادق على ضعف فلسطين والقليل المُتبقّى لدى ناسها.
تفجّرت الكارثة من دَاخِلَة فردٍ يتسلّط عليه الهوى والاختلال، فيما لا يبدو التصويب مُتاحًا اليوم إلّا من مدخَلٍ فَردى أيضًا، وعند أقل قدر من العقلانية التى لا تخدش يقين الأيديولوجيا، ولا تنجرف فى الوقت نفسه وراء نزعة الجنون والانتحار.
وكلاهما لا يأخذ الأمور بحقِّها للأسف، ولا يُقدِّم المطلوب منه بحسب الظرف الراهن ومُقتضياته، وأعلاها قيمةً ورشادًا أن يتقهقر صُنّاع الأزمة عندما لا يملكون وصفةً لحلِّها، وأن يُعيدوا الزمام إلى أصحابه الأصليين: الشارع فى رأس القائمة، وتنوب عنه السلطة بما لها من مشروعية وطنية ودولية، وما تتوافر عليه من خبرة وإمكانات، وليس الحديث عن العتاد والمقاتلين الجبابرة؛ إنما السياسة واللغة، والقدرة على حَمل القضية العادلة دون وَصْمٍ أو تشغيب، ومخاطبة العالم بلا ديماجوجيّةٍ أو شعارات.
لطالما أفاض العقائديون فى الحديث عن هشاشة إسرائيل وقُرب زوالها، وعن لعنة العقد الثامن التى تُطاردها منذ تجاربها الغابرة فى جغرافيا فلسطين. المُفارقة أنَّ الأُصوليّات المغرمة بالاستقواء ادّعاءً، وتضعيف الخصوم توهُّمًا، والقبض على سردية الكيان الذى هو أوهَنُ من خيوط العنكبوت، يتحقَّق فيها ما تظنّه فى أعدائها قبل أن يجرى عليهم.
وصلت الحركة إلى شيخوخة العجز الكامل قبل أن تُتِمَّ عقدها الرابع. والعودة فى الزمن تذكّرنا بشىء شبيه مع الجماعة الأُم، وقد اصطدمت بالدولة المصرية فى فترة الملكية بعد عقدين فقط من استيلادها فى حاضنة المُحتل وتحت رعايته، ثم بنظام يوليو منذ منتصف الخمسينيات. وتكرّرت الخطيئة بعد دفعة الإحياء فى زمن السادات؛ فتعثَّرت وتشاحنت كثيرًا مع نظام مبارك، ثمّ واجهت البلد بكامله بعد يناير 2011 لحين إطاحتها فى ثورة 30 يونيو، وفى غضون أربعين سنة أيضًا أو أقل.
وما صح مع الإخوان فى طَورَين مختلِفَين: جماعة ثم نظام حكم. يُستعاد بصيغة لا تختلف كثيرًا مع الجمهورية الإسلامية، رغم افتراق السبل ظاهرًا فى المذهب والغاية وطبيعة الفكرة، وبينما تُوشِكُ أن تُغلِق عقدها الخامس فى غضون سنوات، فإنها تعيش ضياعًا مُربِكًا وأزماتٍ مُركَّبةً مُتداخلة، ومُتناسلة من أرحام بعضها، منذ عقدين تقريبًا، وقد تزايدت فداحتها بعد إسقاط ترامب للاتفاق النووى فى ولايته الأُولى، وآلت إلى خطر وجودى حقيقى بالاشتباك المباشر مع إسرائيل ضمن تداعيات الطوفان، وانكسار هلالها الشيعى الواصل إلى بيروت عند خاصرته العريضة فى دمشق.
وإذا كانت الفكرة تنطبق على رأس محور الممانعة؛ فإن أكثر ما تتجسَّد فيه منها بوضوح جوهرة تاجها، وأهم أذرعها فى منظومة الميليشيات الرديفة، التى استثمرت فيها لتكون يدًا طُولى لها، وحزامًا صُلبًا لدفاعاتها المُتقدّمة.
تأسَّس «حزب الله» فى لبنان صيف العام 1982، وأُعلن عنه رسميًّا بعدها بثلاث سنوات؛ ليرث ما كان من سطوة وحضور لدى حركة أمل وزعيمها نبيه برى، وارث موسى الصدر بعد اختفائه، ويُلصق نفسَه بالمقاومة ارتباطا بالتزامن مع الاجتياح الإسرائيلى، بما يُجنّبه عن أيّة صلة بالحرب الأهلية التى كانت مُتأجِّجةً لسبع سنوات قبلها.
ولعل هذا ما سمح له بعد اتفاق الطائف بأن يستثنى نفسه من قرار حلّ التشكيلات المُسلَّحة وتسليم عتادها للدولة؛ ليظل شريكًا للقوة النظامية تحت لافتةٍ وطنية تحررية؛ ثم يستبد بها لاحقًا، رافعًا الدويلة فوق مقام الكيان الجامع، وعلى ميثاقية العيش المشترك وفكرة لبنان الرسالة والنموذج.
لا يحتفل الحزب دوريا بذكرى التأسيس؛ لكنه يفعلها أحيانا فى العُقَد المميزة، أو أوقات التعرض لامتحانات صعبة، يُقرِّر أن يُجابهها بإذكاء العاطفة وتثبيت قلوب حاضنته الشعبية.
وأقرب نسخة كانت فى يونيو 2022، عندما أعلن عن برنامج يمتدُّ شهرين كاملين لإحياء أربعينية ميلاده. بالتزامن كانت المحكمة الدولية فى قضية رفيق الحريرى تُصدر حُكمَها على قياديين من عناصره، وتُوثِّقُ بالدليل القاطع مسؤوليته عن تصفية رئيس الحكومة فى قلب عاصمته.
قبلها كان زخم الاحتجاجات الشعبية فى 17 أكتوبر 2019، وقد نجح فى إفسادها مع جبران باسيل وتيّاره، وبقية الطيف الواسع من طبقة المنتفعين بالزبائنية، وتحويل الطائفية قيدًا على البلد لا عامل إثراء لطاقاته.
أحياها نصر الله، والأربعون سِنّ النضج، والرجل خطيب مُفوّه؛ لكنه بعد سنتين أو يزيد قليلاً خانته البلاغة، وتأكّد الجميع أن الحزب وقائده لم يُغادرا جنة الوهم ولا جحيم المراهقة.
تأسَّست الأسطورة على التحرير، وكان انسحابا من طرفٍ واحد لحسابات تخص المحتل قبل مقاوميه. انزلق السيد مرّة بعدها فى 2006، ثم عاد ليقول إنه لو علم بالمآل ما أقدم على ما ذهب إليه. وذاكرة الميليشيات تُومض ثم تنطفئ سريعًا، أو ربما العِلَّة فى أن قرارها من خارجها؛ فكان الانزلاق ثانية فى حرب «الإسناد والمشاغلة»، فلا أسند غزة ولا شاغل إسرائيل، وخسر فى شهرين ما راكمه لأربعة عقود، ثم قُتل فى قعر الضاحية بعدما أعاد الاحتلال إلى الجنوب الذى غادره لربع قرن.
وإلى اللحظة؛ يستعير خليفة خليفته، نعيم قاسم، ذات اللغة الخشبية، من دون كاريزما الراحل وبلاغته، ولا شجاعة الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، إنما يُربّى فى مُخيّلته العاطلة تصوُّرًا ساذجًا عن النصر بمُجرّد البقاء، أمَّا استعادة الأرض فمن مسؤوليات الحكومة والجيش. ولسان حاله: نربح وحدنا، ونترك الهزائم للآخرين.
والمنطق نفسه يحكُمُ حماس، ويتسلَّط على عقول المُمسِكين بقيادها؛ إن كانت ثمّة عقول أصلا لدى تنظيم يخوض بالدنيا حروب الآخرة، ولا يعرف فداحة أن يُضيّع المرء من يعول.
تحتفل الحركة بالتأسيس وهى توشك على التفكُّك، تحيى ذكرى الميلاد فى قبرٍ باتساع القطاع، وبين موتى موتى حالفهم الحظ بموعد قريب مع حاصد الأرواح، وموتى أحياء لا يَطفُون ولا يغرقون، كأنهم الأيتام على موائد اللئام.
وإذا كان الحزب لا يحتفل لأنه نشأ فى سياق انكسار مع الاجتياح؛ فالحماسيون وُلدوا فى أجواء بعث واستنهاض مع انتفاضة الأطفال، ويحقُّ لهم إحياء المناسبة فى أىِّ وقت غير النكبة القائمة، أو بأن يُسلّموا الراية لأصحابها الأصلاء، فيكون الإحياء لسيرة المُنتفضين، والهَبّةُ لأجل التشبُّث بالحياة، لا الاستخفاف بها، والزحف على بطون خاوية وضمائر خربة باتجاه الموت المجانىّ غير المشمول بأملٍ أو عزاء.
والرسالة من وراء الاحتفال بالمناسبة، ليست أنَّ الحركة تنعزلُ باختيارها عن البيئة الحاضنة فحسب، وتفصل نفسها عن الناس وشواغلهم؛ فتُقيم أفراحَها وحدها وتترك لهم أحزانهم التى تسبّبت فيها؛ بل أنها لا تعترف حتى الآن بما تعثّرت فيه أو أخطأت، وغير جاهزة للإقرار والاعتذار والتصويب.
وبطبيعة الحال؛ فإنها لا تُرحّب بالتضحية لأجل القضية والشعب، ولا ترى فى خلوتها بكشوف الحساب حاجةً أصلاً لتخفيف أحمالها الثقيلة، أو البحث فى إعادة إنتاج ذاتها على وجهٍ يتجاوب مع التحديات الراهنة، ويُعزّز مسار الانعتاق من المأساة، بدلاً من أن تظل قيدًا على الساعين لافتكاك أنفسهم، أو ماكينةً لإنتاج الذرائع على هوى نتنياهو وميقاته المأمول.
انقضت المرحلةُ الأُولى من اتفاق وقف الحرب، أو تُوشِك على الانتهاء. والكلام سيّار بشأن الانتقال إلى ما بعدها، ولا يتوقَّف الأخذُ والرَدّ فى كواليس الوسطاء بشأن الترتيبات المُرتَقَبة وفق البنود العشرين لخطة ترامب.
يسعى الصهاينة لتجزئة الصفقة، وتثبيت الخط الأصفر ليكون حدودًا دائمة للقطاع. يُجاريهم الأمريكيون جزئيًّا، وترفض مصر، وتقود جبهة عربية إسلامية للرفض المُطلق، وستظل المسألةُ محلَّ جدل كبير لحين حسمها فى الأيام المُقبلة، وهو ما يُتَوَقّع أن يحدث خلال زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية للولايات المتحدة أواخر الشهر الجارى.
تحتضن قطر غدًا اجتماعا عسكريًّا بخصوص قوّة الاستقرار الدولية؛ ليُمثّل أول ورشة عَمليّة لبحث الأفكار التنظيمية والتفاصيل الإجرائية. أوردت «وول ستريت جورنال» أن إدارة ترامب تسعى لجمع 10 آلاف جندى، وأنه يُحتَمل نشرهم على مرحلتين أو أكثر بدءًا من مطلع العام المُقبل.
الصحيفة قالت إن الخارجية الأمريكية خاطبت 70 دولة للمشاركة، وأبدت 19 منها فقط قبولاً للإسهام بأفرادٍ، أو عبر صُوَر أُخرى تشمل التمويل والمعدات وغيرها.
باختصار؛ يبدو المسار مُتعثّرًا نسبيًّا: من جانب يخشى كثيرون مواقف حكومة الاحتلال وعدم التزامها، ومن الآخر يتحسّب البعض من تصلّب حماس وفصائلها التابعة، بما يضعُ القوّة فى مواجهة مع الفلسطينيين، أو يُصوّرها كمَن ينوب عن إسرائيل فى استكمال باقة أهدافها.
صحيح أن واشنطن راغبة فى تحريك الأوضاع بغية تفعيل المرحلتين الباقيتين من الخطة، وإحراز نجاح يُصرَف لرصيد رئيسها الباحث عمّا يملأ بروازه الموسوم بصفة «صانع السلام»؛ لكن التعطيل ما يزال احتمالا واردًا.
وسواء أُديرت العملية بطريقة خاطئة، أو أخفق إطلاقُها وبقيت الجغرافيا والتوازنات الميدانية على جمودها الراهن؛ فكلاهما يصبُّ فى صالح الدولة العبرية، وائتلافها الحاكم بالخصوص، ولا يخدم فصائل غزة عاجلا وآجلا، كما لا يفيد القطاع من حيث كونه بشرًا وحجرًا غير مُؤدلَجَين، ويخصم من فلسطين وقضيتها، بأكثر مِمّا يُوفّر لها سبيلاً إلى الوعود محل الارتياب ضمن بنود ترامب.
لا شىء مضمون قطعًا؛ لكنَّ المصلحة تقتضى أن يُفَسَّرَ الشَّكُّ وتداخل الاحتمالات لصالح المنكوبين، لا لغرام العقائديين بالدوران حول أنفسهم، أو البحث عن نهاياتٍ مثاليّةٍ مُبهجة، فى تراجيديا مكتوبة بالدم منذ سطرها الأوّل.
تحتاج مهمّة الإنقاذ إلى إثراء وإغناء وتدفيع من كل الراغبين فى إنجاحها، والساعين إلى الشراكة فى الواجب الأخلاقى والسياسى، أو المُستفيدين منه. ولا أحد يعلو فى الاستفادة على الغزيين، ثم الحماسيين أنفسهم بما يتوافر فى الطرح من طوق نجاة ومسرب للخروج من الفخ. وأَولى من الاحتفال بذكرى التأسيس؛ أن تُقيم الحركة مأتمًا لخطاياها منذ الطوفان، وتدفن ما تبقّى فاعلا منها، بدلاً من تحنيطه والتعبُّد إليه بدأب لا يقودها إلّا من سيئ لأسوأ.
لم تكن غزّة فى أية مرحلة من تاريخها أسوأ مِمّا هى عليه الآن؛ حتى عندما سيطر عليها الاحتلال بعد يونيو 1967 وإلى فك الارتباط من طرف واحد فى 2005، وكان نتنياهو وزيرا فى حكومة شارون وقتها. وما أقدم الأخير على ذلك؛ إلا ليُسلّمها إلى قبضة حماس، وقد تكفّلت بما لم ينجح فيه الصهاينة أنفسهم، ألا وهو التناطُح وشق الصف وتقويض البيت الوطنى من داخله. ولسنا فى حاجة للتذكير باستثمار زعيم الليكود فيها، ولا كيف أعاناها على الانقسام وقوّى شوكتها، لتكون خنجرًا فى خاصرة رام الله.
تفرض المروءة ألا يُظهِر الناس الفرح لو كان لهم جار فى حزن وغَم؛ فماذا لو كان المُبتهج مسؤولاً بنسبةٍ عن وجيعة المُغتمّ! احتفال الحركة بذكرى التأسيس إعفاء لنفسها من المسؤولية، وإحالة للكُلفة الباهظة إلى حساب «الخسائر التكتيكية» كما قال خالد مشعل سابقا. إشارة إلى أنها أكبر من سياق المأساة، وغير مَعنيّة به، بل مستعدّة للقفز عليه وطرحه وراء ظهرها.
حماس فى حاجة ماسّة للمُراجعة؛ لأنها تتصرّف كما لو كانت القضية بقضّها وقضيضها، وأن فلسطين ما كانت قبلها، ولن تكون بعدها. وتلك الفكرة البائسة أشد سوءا من الطوفان، ومن كل ما جنته الحركة وعموم فصائل الإخوان على البلاد والعباد وقضاياهم الكُبرى طيلة العقود الماضية.