شحاتة زكريا

وعى جديد يولد.. ومواطن مختلف يستعد للمستقبل

الأحد، 14 ديسمبر 2025 03:47 ص


في لحظات معينة من عمر الأمم يتغير كل شيء دون أن يعلن أحد عن ذلك رسميا، لا تتبدل التحولات في نشرات الأخبار فقط ولا تتحرك العجلة في المؤسسات وحدها بل يبدأ التغيير الحقيقي في عقل الإنسان نفسه. ومن يراقب المشهد المصري اليوم بعمق يكتشف أن وعيا جديدا يولد وأن مواطنا مختلفا تماما يستعد لمرحلة استثنائية من تاريخ هذا الوطن مرحلة لا تحتمل التردد ولا تسمح بالعودة إلى الخلف.

لم يعد المواطن كما كان قبل سنوات قليلة ذلك المتلقي الصامت الذي يراقب الدولة من بعيد. صار أكثر يقظة أكثر حساسية تجاه التفاصيل وأكثر إدراكا لتأثير كل قرار وكل حدث وكل خبر على حياته وحياة أسرته. السياسة لم تعد بعيدة عن يومياته ولا القضايا الكبرى أصبحت شأن النخبة فقط. كل شيء أصبح متداخلا: الاقتصاد يطرق أبواب كل بيت الأحداث الإقليمية تتسلل إلى أحاديث المقاهي والشائعات السريعة حول العالم تشعل رأيا عاما في دقائق معدودة. هكذا أصبح المواطن لاعبا في قلب المشهد مهما حاول البعض التقليل من وعيه أو مشاعره.

وفي المقابل فإن الدولة نفسها تعيش مرحلة إعادة صياغة لأسلوب إدارتها وتفاعلها مع الناس. تحديات العصر لم تعد تسمح بالتعامل بالطريقة القديمة فالعالم يتحرك بسرعة مرعبة اقتصاد عالمي متقلب صراعات لا تهدأ في المنطقة تكنولوجيا تخترق كل شيء ومجتمع يطالب بدور أكبر وصوت أعلى. هذا التفاعل بين الدولة والمواطن هو ما يصنع شكل المستقبل لأن العلاقة بينهما لم تعد قائمة على الأوامر والاستجابة فقط بل على الشراكة في التفكير والمصير.

وسط كل هذا تأتي الضغوط الاقتصادية كاختبار قاسٍ للوعي الجمعي. ارتفاع الأسعار، تقلبات الأسواق، القلق من الغد… كلها صراعات يعيشها المواطن يوميا. ومع ذلك نكتشف أن الإنسان المصري يمتلك قدرة مذهلة على الصمود على إعادة ترتيب حياته وعلى البحث عن حلول حتى في أصعب اللحظات. لم تمنع القسوة الناس من الإيمان بوطنهم لكنها دفعتهم لطرح أسئلة جديدة حول العدالة والفرص ومتطلبات الحياة الكريمة. وهذه الأسئلة ليست صدامية كما يظن البعض بل هي بداية الوعي الحقيقي الذي يميز المواطن الجديد الذي يتشكل في هذه المرحلة.

ومع اتساع مساحة وسائل التواصل باتت معركة الوعي أكثر تعقيدا. فالخبر لم يعد مجرد معلومة بل أصبح سلاحا وأحيانا فخا وأحيانا وسيلة لخلق رأي عام لا علاقة له بالحقيقة. هنا يظهر المواطن الذي لا يصدق كل شيء ولا يندفع خلف كل صرخة ولا يسمح لضجيج التريند بأن يخطف عقله. هذا المواطن الذي يسأل قبل أن يتبنى فكرة ويفكر قبل أن ينشر معلومة ويضع معايير واضحة لتمييز الحقيقة من الوهم هو أعظم مكسب يمكن أن تحققه أي دولة تبحث عن الاستقرار والنهضة.

أما الأجيال الجديدة فهي قصة أخرى. جيل مختلف تماما في رؤيته وطموحه ووسائل تعبيره. جيل لا يقبل أن يعيش بنمط الأجيال السابقة ولا يقنع بمسارات الحياة التقليدية ولا يرى في الواقع قيودا بقدر ما يرى فرصا. هذا الجيل يمتلك أدوات المعرفة الحديثة ويحتاج فقط إلى مساحة من الثقة والدعم ليقدم ما يستطيع تقديمه. وحين يجد هذه المساحة يتحول إلى قوة تغيير حقيقية لا يمكن إيقافها قوة تعيد تشكيل شكل المجتمع وتعيد رسم صورة المستقبل.

إن التحول الذي يحدث الآن في مصر ليس سياسيا فقط ولا اقتصاديا فقط ولا اجتماعيا فقط. هو تحول في وعي الناس وفي طريقة فهمهم للدولة وللعالم ولأنفسهم. وهذا الوعي الجديد لا يولد بقرارات حكومية ولا بمقالات صحفية ولا بخطب رسمية بل يولد داخل كل فرد حين يدرك أنه شريك في بناء الوطن لا مجرد متفرج عليه.

ما يحدث اليوم هو بداية مرحلة جديدة مواطن مختلف يريد أن يُعامل باحترام وأن يُخاطَب بعقل وأن يرى جهده وتضحياته محل تقدير. ودولة تتحرك في اتجاه إعادة بناء العلاقة مع شعبها على أسس أكثر واقعية وشفافية. وكلما اقترب الطرفان من بعضهما زادت قدرة هذا الوطن على مواجهة التحديات وامتلاك المستقبل.

إن وعيا جديدا يتشكل بالفعل… وعي لم يعد يقبل بالتبسيط أو التجاهل أو التجاوز. وعي ينظر إلى الوطن كبيت مشترك لا كإطار سياسي فقط. وعي يجعل المواطن أكثر مسؤولية ويجعل الدولة أكثر فهما لنبض الناس. وإذا اكتملت هذه المعادلة فلن يكون المستقبل مجرد امتداد للحاضر بل سيكون صفحة جديدة تماما تليق بوطن يمتلك تاريخا عظيما ويستحق مستقبلا أعظم.

وعي جديد يولد… ومواطن مختلف يستعد للمستقبل… وتاريخ آخر يكتب الآن في العقول قبل الأوراق وفي القلوب قبل المؤسسات وفي إصرار شعب يعرف جيدا أنه مهما اشتدت العواصف سيبقى الأمل هو البوصلة التي لا تخطئ الطريق.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة