السخرية التي وُجّهت إلى فيديو أحمد السقا الداعم لمحمد صلاح لم تكن موجهة للفيديو بقدر ما كانت موجهة لفكرة أعمق: فكرة أن يُسمح للإنسان أن يتكلم بدافع المحبة في عالم بات يشكّ في كل عاطفة، ويُجرّم كل انحياز غير بارد. كأن المطلوب من المشاعر أن تمر عبر مصفاة السخرية أولًا حتى تُعترف بها.
أنا شخصيًا، ومع كل تحفظي على ما فعله أحمد السقا، ومع دهشتي من طريقته وتوقيتها، لم أستطع أن أراه إلا تصرفًا نابعًا من محبة صافية واحترام حقيقي لمحمد صلاح، تصرف قد يكون غير محسوب، لكنه ليس زائفًا. وفي الفلسفة الأخلاقية، النية ليست تفصيلًا ثانويًا، بل جوهر الفعل.
ما قاله أحمد السقا لاحقًا في مداخلاته، خصوصًا مع الإعلامي عمرو أديب، كشف بوضوح أن الرجل لم يكن يسعى إلى بطولة، ولا إلى تصدّر مشهد، ولا إلى تسجيل موقف شعبوي، كان يتحدث من موقع شخص يرى في محمد صلاح قيمة إنسانية قبل أن يكون نجمًا كرويًا. وهذا فارق جوهري. فالدفاع هنا ليس عن عقد، ولا عن أرقام، بل عن كرامة رمزية لإنسان عربي وصل إلى ذروة عالم لا يرحم.
السخرية من السقا افترضت ضمنيًا أن التضامن لا يحق له أن يكون عاطفيًا، وأن أي خطاب غير محسوب بمعايير العلاقات العامة هو خطأ. لكن متى صار الصدق خطأ؟ ومتى أصبح التعبير الإنساني مادة للازدراء؟ المشكلة ليست في الفيديو، بل في مناخ عام بات يعتبر البرود فضيلة، واللامبالاة ذكاء، والسخرية أعلى أشكال الفهم.
الأكثر إيلامًا في هذا المشهد أن أحمد السقا، الذي أُخذ عليه “تدخله”، يقف في الجهة المقابلة تمامًا من آخرين، هم هنا في هذا المجتمع العبثي، كرّسوا وقتًا وجهدًا ممنهجًا لمهاجمة محمد صلاح، والمشاركة في اغتياله معنويًا، وبشكل هستيري غريب، لا يمكن تفسيره إلا بوصفه عداءً مثيرا للتساؤل والتعجب. هناك من يهاجم صلاح بتصميم وهو يعي ذلك جيدا، وهناك من حاول – ولو بخطأ – أن يحميه. والمفارقة أن السخرية ذهبت إلى من أحب، لا إلى من كره.
الدفاع العقلاني الحقيقي هنا ليس دفاعًا عن صحة الفعل، بل عن إنسانيته. من حقنا أن نختلف مع طريقة السقا، أن ننتقدها، أن نراها غير موفقة. لكن ليس من العدل أن ننزع عنها معناها الأخلاقي. فالفعل الإنساني لا يُقاس دائمًا بذكائه، بل بصدقه.
إذا كنا نطالب بنقاش عام أقل عنفًا، وأكثر رحمة، فعلينا أن نبدأ من هنا: أن نميّز بين الخطأ والنوايا، بين سوء التقدير وسوء القصد. أحمد السقا لم يكن عدوًا لمحمد صلاح، بل كان، ببساطة، إنسانًا حاول أن يقول: "أنا معك".
ونحن، مع كل اختلافنا، يجب أن نراعي ذلك، لا أن نحطمه ونؤذيه بهذه القسوة، فالعالم لا يحتاج إلى مزيد من السخرية، بقدر ما يحتاج إلى قليل من الفهم.
في الفلسفة الأخلاقية، لا يُدان الفعل بمعزل عن نيته، ولا تُقاس القيمة الإنسانية بمدى البراعة في التقدير، بل بصدق الدافع. ربما كان خطأ أحمد السقا إن اعتبرناه خطأ، هو أنه تصرّف كإنسان في زمن يطلب من الجميع أن يتصرفوا كآلات محسوبة. قال ما شعر به، لا ما تدرب على قوله. اختار الانحياز للمحبة لا للحسابات، وللإنسان لا للمؤسسة.
هنا تكمن المفارقة: أن يُسخر ممن حاول أن يكون وفيًا، بينما يُمنح الصمت أو التبرير لمن يمارس القسوة بوعي. في عالم كهذا، يصبح الدفاع عن النية فعل مقاومة، ويصير الاعتراف بإنسانية الخطأ أرقى من ادّعاء ذكاء بلا قلب.
ربما لا يحتاج محمد صلاح إلى هذا الدفاع، لكنه يحتاج ونحتاج معه، إلى عالم أقل فظاظة، وأكثر استعدادًا لتفهّم أن بعض الأفعال لا تُرتكب لتُصيب، بل لتقول فقط: “نحن معك”. هذا، في جوهره، ليس ضعفًا… بل شكل نادر من الشجاعة الأخلاقية.
في فلسفة واحد مثل إيمانويل كانط، آخر فلاسفة عصر التنوير، لا تُقاس القيمة الأخلاقية للفعل بنتيجته، بل بالنية التي صدر عنها. الفعل يكون أخلاقيًا حين ينبع من احترام داخلي للإنسان بوصفه غاية، لا وسيلة. وبهذا المعنى، فإن ما فعله أحمد السقا بصرف النظر عن صوابه أو خطئه العملي، يندرج ضمن أفعال النية الحسنة، لا ضمن حسابات المصلحة أو الاستعراض. لقد تصرّف بدافع احترام إنسان يراه مستحقًا للدعم، لا بدافع مكسب أو سلطة أو شعبية.
المفارقة أن المجال العام اليوم بات يُدين النية الصادقة إذا لم تكن ذكية بما يكفي، ويكافئ القسوة إذا كانت محسوبة. كأن الأخلاق لم تعد سؤالًا عن الخير، بل عن الكفاءة في تجنّب السخرية. لكن كانط يحذّرنا من هذا الانزلاق: حين نفصل الأخلاق عن النية، نُفرغ الفعل الإنساني من معناه، ونحوّل الإنسان إلى أداة في لعبة رأي عام لا ترحم.
ربما أخطأ السقا في التقدير، وربما خانته اللغة أو التوقيت، لكن خطأ النية الصادقة يظل أخف وطأة من صواب بلا ضمير.