يظل نجيب محفوظ، بعبقريته الفذة، النهر الذى لا ينضب للوعى المصرى، والمؤرخ الأهم لتحولات المجتمع المصرى وطبقته الوسطى على مدار القرن العشرين، فقد شكل أدبه، من خلال رواياته وقصصه وكذا سيناريوهاته التى تحولت إلى أيقونات سينمائية، مرآة صادقة عكست أدق تفاصيل الحياة المصرية، من أحلام وطموحات إلى صراعات وإخفاقات، كما كانت أعماله بمثابة السجل الحى الذى وثّق تطور وعى الطبقة الوسطى، منفتحة على قضايا الهوية والسياسة والفلسفة.
هذه الأهمية المحورية تجعل من دراسة أدبه وما تفرع عنه من إبداعات فى فنون أخرى - سواء على يد محفوظ نفسه فى المسرح والسيناريو، أو من خلال المبدعين الذين استلهموا أعماله فى السينما والتليفزيون والمسرح والموسيقى - ضرورة قصوى، فالوقوف على الجوانب المتعددة لهذه الإبداعات بالدراسة الأكاديمية ليس مجرد احتفاء، بل هو استكشاف لجذور الهوية الثقافية.
فى هذا السياق، يقفز إلى الذهن مباشرة النموذج الإنجليزى فى تخليد ذكرى وليم شكسبير، عندما أرادت الأمة الإنجليزية تكريم قيثارة الأدب الأهم، لم يكن مجرد إقامة الاحتفالات أو المتاحف هو الهدف الأسمى، بل كان التركيز الأساسى على التشجيع على دراسة فنه وما يتعلق به دراسة منهجية وعلمية، إدراكا بأن العلم هو الخطوة الأهم فى بناء الوعى بالتاريخ ودمجه فى الحاضر، وقد اعتمدت بريطانيا على ترسيخ مفهوم العلم بوصفه البانى الأهم للوعى، ولذلك كان القرار بإنشاء معهد شكسبير عام 1951 فى ستراتفورد، والذى أصبح جزءًا من جامعة برمنجهام، ويُعد الآن أحد أهم مراكز الدراسات العليا المكرسة لدراسة شكسبير وأدب عصر النهضة الإنجليزية.
إن هذه الفكرة ذاتها يجب أن تترسخ بقوة كلما ثارت قضية متعلقة بنجيب محفوظ وذكراه وأعماله، فلا يكفى، بالقطع، أن نحتفى به عبر الاحتفالات التذكارية السنوية أو المقالات العابرة، ولا حتى عبر متحف يضم مقتنياته ومكتبته فقط، فالقيمة الحقيقية التى صنعت اسم نجيب محفوظ تكمن فى مضامين أعماله، تلك التى تحولت إلى صنوف متعددة من الإبداع، ولذلك تظل دراسة هذه الأعمال ضمن إطار علمى ومنهجى منظم هى الخطوة الأكثر أهمية لتخليد اسمه كجذر أصيل من جذور الهوية المصرية والعربية.
من هنا يصبح التفكير فى إنشاء معهد علمى يحمل اسم نجيب محفوظ، ويعنى بدراسة وتحليل أعماله بشكل شمولى، ضرورة ملحة، حيث لا يقتصر الأمر على دراسة رواياته وقصصه، بل يتسع ليشمل المسرحيات والسيناريوهات التى كتبها، والمعالجات التى حولت أعماله إلى فنون سينمائية وإذاعية وتليفزيونية ومسرحية، وما صاحبها من موسيقى وديكورات ومعالجات بصرية وسمعية، إضافة إلى دراسة ترجمات أعماله وانتشارها العالمى.
إن وجود هيئة علمية متكاملة تعنى بهذا الناتج الهائل أمر حيوى، وربما يكون المكان الأَوْلى لاستضافة مثل هذا المعهد هو أكاديمية الفنون المصرية، بحيث يستوعب كل التخصصات النقدية والفنية، وما يتصل بها من علوم إنسانية مساعدة كالتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والسياسة وغيرها.
ما زال الحلم يراودنا بإنشاء هيئة علمية متخصصة ومستدامة فى دراسة نجيب محفوظ، هيئة تدرس وتحلل وتنتقد وتنتج وعيًا جديدًا بإبداعه، يكون أحد أهدافها تجاوز مظاهر الاحتفاء العابرة التى قد تنتهى بنا إلى الإجهاز على كنز من كنوزنا المعرفية، ويصبح ما يعرفه الجيل التالى عنه مهمشا وسطحيا.
إن الأمر يتطلب حراكًا مؤسسيًا يبلور جهود المؤرخين والنقاد، التى غالبًا ما تكون جادة وعميقة لكنها تظل حبيسة الإطار الفردى، حيث لا بد من تنظيم هذه الجهود داخل إطار أكاديمى كبير يضمن الاستمرارية والعمق المنهجى.
نجيب محفوظ