قد يتعجب البعض من السؤال، فمن المعروف والثابت لدى قُراء نجيب محفوظ أنه بدأ كتابته بروايات عن الحضارة المصرية القديمة، كرواية رادوبيس، كما وثَّق بعض الأحداث التاريخية فى رواياته، كثورة عرابى عام 1882، التى تناولها فى رواية حديث الصباح والمساء، وثورة 1919، التى تناولها فى رواية بين القصرين، ولم يكتفِ بهذا، بل كتب روايات فلسفية، وروايات رمز بأحداثها إلى الواقع المصرى - كما يرى بعض النُقّاد - لكن المفاجئ حقًا أنه كتب فى أدب الجريمة بشكل مباشر وغير مباشر، لكنه كتب فى هذا المضمار بأسلوب مختلف، ونحن فى هذا الموضوع لن نتطرق إلى إسقاطاته وإشاراته فيما يكتب، بل سنتحدث عن الجرائم التى يحكى عنها صاحب نوبل، فى رواياته وقصصه۔
مقارنة سريعة.. اعتدنا فى روايات أدب الجريمة، أن تحتوى على حادث قتل غامض، يظهر ضابط للتحقيق فيه، ومشتبه بهم يسعى الضابط لاكتشاف الجانى من بينهم، وأحيانًا يختار الكاتب شخصًا ما تجتمع كل الأدلة ضده، يُقبَض عليه، ويسعى المتهم لإثبات براءته بكل الطرق الممكنة، المختلف فى قصص نجيب محفوظ، أنه يصف حالة الشاهد الذى يتحول إلى جانٍ فجأة، أو محقق يحاول كشف الجانى، أو شخص يُقتَل غدرًا بسبب الثأر منه، ولم يتمكن أحد رجاله من إدراك القاتل، الفكرة أن نهايات قصص نجيب محفوظ مفتوحة، فهى قضايا لا حلَّ لها كباقى الجرائم التى نقرؤها لكُتّاب آخرين.
نماذج من أعماله
الجريمة: ذكرت بعض المصادر أن هذه المجموعة القصصية صدرت عام 1973، وأن قصة الجريمة تحديدًا إشارة لنكسة يونيو، لكنَّنا هنا نهتم أكثر بعرض الجرائم فى هذه المجموعة القصصية، وهنا سنجد قصتين فى هذا المجال:
1 - تحقيق، وتحكى هذه القصة عن امرأة تخون زوجها مع زميلها فى العمل، لكنه هرب بعد أن رآها جثة هامدة، ونسى زجاجة الشراب وعلبة الشوكولاتة اللتين أحضرهما معه، وراح يبحث عن قاتلها، لكنه ارتكب خطأً وضعه فى مأزق، إذ كتب بالآلة الكاتبة خطابًا، يعترف فيه بأنه صاحب زجاجة الشراب وعلبة الشوكولاتة، وذكر للشرطة شكوكه والمعلومات التى جمعها عن الحادث، ليتحول بعدها إلى قاتل، لأن هذا الخطاب المكتوب بالآلة الكاتبة، كان دليلاً ضده.
2 - الجريمة، تحكى هذه القصة، عن ظهور جثة كانت مدفونة فى قبو فيلا فى إحدى ضواحى القاهرة، وقد كُلِّف أحد الضباط بالتحقيق فى تلك القضية بشكل سرى، لكنه كان مراقبًا من ضابط القسم فى تلك الضاحية، واضطر للانسحاب من تلك القضية بعد كشف الضابط له، وخوفًا من قتله.
خمّارة القط الأسود: فى هذه المجموعة القصصية تتناول مجموعة من الجرائم، ذات النهايات المفتوحة، من بينها:
1 - كلمة غير مفهومة، تحكى هذه القصة، عن المعلم حندس، فتوة إحدى الحارات، قتل شخصًا كان ينافسه على الفتونة، وقد رأى حندس ذاك الرجل فى منامه وهما يتسامران، وقد أخبره القتيل أنه زار ابنه وطلب منه أن يدع الموت والأموات للخالق، لكن حندس لم يفهم الرسالة.
2 - المتهم، تحكى هذه القصة عن شاب كان يقود سيارته إلى السويس حيث يعمل، فرأى شابًا على دراجة نارية كانت مرتبطة بمؤخرة سيارة نقل البترول، وفجأة سمع صرخة ما، فرأى سيارة النقل تركض، والدراجة منقلبة براكبها، فهبط يفحص المصاب، ليُطوِّقه الفلاحون من كل جانب، ويتهمونه بقتل الرجل، وتحتجزه الشرطة لاستكمال التحقيق، لكن صاحب الدراجة يموت متأثرًا بجراحه، ويصِرُّ المتهم بأنه برىء، رغم إجماع الفلاحين على إدانته.
3 - المجنونة، تحكى هذه القصة عن شجار وقع فى إحدى الحارات، نتج عنه وفاة كل أطراف الشجار، وحار المحققون فى أسباب الشجار، وبعد التحريات توصلوا لنتيجة تقريبية لحل ذلك اللغز، من الواضح أن نجيب محفوظ كان مهتمًا بالحالة النفسية لأبطاله، أكثر من حلِّ اللغز، ومن الواضح أنه ترك نهايات بعض القصص مفتوحة لأسباب لا يمكن أن يعرفها إلا مَن هو متعمق فى القراءة لصاحب نوبل، لكنه نبهنا إلى أمر مهم، وهو أن القتل ليس الجريمة الوحيدة التى يُعانى منها المجتمع، فالإهمال جريمة، والظلم جريمة، والتعدى على القوانين جريمة، ومخالفة الشرع جريمة، ورمى الناس بالباطل جريمة، والمتاجرة بأحلام البشر جريمة.