في اللحظة التي يدخل فيها الطفل المصاب باضطراب طيف التوحد إلى غرفة التشخيص لأول مرة، يبدأ اقتصاد آخر في التشكل، اقتصاد لا يظهر في نشرات الموازنة العامة، لكنه حاضر في كل بيت، وإذا كان وجهه الأول هو "فاتورة" ثقيلة تتحملها الأسرة، فإن وجهه الآخر الأكثر إشراقًا هو أنه استثمار طويل المدى في قدرات بشرية قد تضيف للاقتصاد القومي أكثر مما تستهلك منه.
ومع أن الصورة التقليدية للتوحد ترتبط في أذهان كثيرين بالأعباء والتكاليف، فإن الأرقام تقول شيئًا مختلفًا، فنحن أمام طيف واسع، ليس من "الاحتياجات" فقط، بل من الفرص الكامنة أيضًا، وعندما ننظر إلى الملف من زاوية الاقتصاد الكلي، نكتشف أن الاستثمار المبكر في طفل واحد يمكن أن ينقذ الدولة من خسائر مضاعَفة لاحقًا، ويحول أفرادًا كانوا معرضين للتهميش إلى قوة عمل قادرة ومنتجة ومختلفة بأفضل معنى للكلمة.
تقديرات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن نحو طفل واحد من كل 100 طفل حول العالم يقع ضمن "طيف التوحد"، بينما وصلت النسبة في بعض الولايات الأمريكية – وفق بيانات مراكز مكافحة الأمراض – إلى طفل واحد من كل 36، ثم إلى طفل واحد من كل 31 في أحدث الإحصاءات، أي أن أكثر من 3% من الأطفال مصابون بهذا الاضطراب.
هذه الأرقام تعني ببساطة أن كل صف دراسي تقريبًا في كثير من دول العالم يضم على الأقل طفلًا واحدًا ضمن مرض الطيف.
وفي مصر، بدأت الصورة تتضح مع المسح القومي الذي شمل أكثر من 41 ألف طفل من سن عام إلى 12 عامًا، حيث وجد أن نحو 3,3% منهم في فئة "عالي الخطورة للتوحد"، وأن نسب الانتشار الفعلي تدور بين 1 و1,5%، مع معدلات أعلى قليلًا في المدن مقارنة بالريف.
وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد المصابين باضطراب طيف التوحد في مصر يبلغ نحو 800 ألف طفل، وهو رقم يكشف حجم المأساة، لأنه يتحدث عن كتلة بشرية كاملة تحتاج إلى تعليم وعلاج وتأهيل وفرص عمل، أي تحتاج إلى اقتصاد يستلزم التفكير والتخطيط بعناية.
وإذا انتقلنا من عدد الأشخاص إلى حجم الأموال، تتضح أكثر ملامح "اقتصاد التوحد"، فعلى المستوى الدولي، قدرت دراسات علمية أن التكلفة الكلية لطفل واحد مصاب بالتوحد مع إعاقة ذهنية مرافقة قد تتجاوز 2 مليون دولار في بعض الدول الغنية، وأن الكلفة السنوية الإجمالية للتوحد على مستوى العالم تقدَر بنحو 268 مليار دولار سنويًا.
أما في مصر فلا تزال الصورة الدقيقة للكلفة الاقتصادية لاضطراب طيف التوحد غائبة، فلا توجد دراسة قومية ترصد ما ينفَق من خزينة الدولة وجيوب الأسر وما يفقَد من إنتاجية في سوق العمل، لكن تفاصيل الحياة اليومية، من جلسات التخاطب وتعديل السلوك والعلاج الوظيفي إلى تكاليف الدمج التعليمي والاجتماعي، تكشف أن التوحد يضغط مباشرة على ميزانية الأسرة كما يحمل الاقتصاد العام أعباء صريحة ومستترة، ومع ذلك، فهذه الأعباء ليست نهاية الحكاية، إذ إن كل جنيه يستثمَر مبكرًا وبحكمة في طفل "طيف التوحد" يمكن أن يعود بأضعافه في صورة قدرات بشرية منتجة تضيف إلى الأسرة والمجتمع والاقتصاد القومي بدل أن تستنزَف منه.
إن التدخل المبكر في سنوات العمر الأولى يحول اضطراب طيف التوحد من "فاتورة رعاية" إلى "استثمار اقتصادي" للأسرة والدولة، ويرفع قدرات الطفل على التواصل والعناية الذاتية والتعلم، ويقلل لاحقًا من الحاجة إلى رعاية مكثفة ومكلفة، بما يمنحه فرصة أكبر للاستقلال والعمل.
وحين يحصل الطفل على حقه في الكشف المبكر، والتأهيل، والتعليم الدامج، يمكن أن يصبح عاملًا منتجًا في مجالات تتطلب دقة عالية وانتباهًا للتفاصيل كالبرمجة والتصميم والأعمال الرقمية وتحكم الجودة، وهو ما يخفف الاعتماد على الدعم الحكومي ويزيد مساهمته في الناتج المحلي، ومن هذا المنظور يصبح كل جنيه تنفقه الدولة على برامج الكشف المبكر، وتدريب المعلمين والأخصائيين، ومقاعد الدمج في المدارس، وإدراج خدمات التوحد في التأمين الصحي الشامل، استثمارًا ذكيًا لتقليص كلفة الرعاية المستقبلية وبناء مجتمع أكثر تقبلًا لكل طاقة بشرية ممكنة.
ويبقى السؤال: كيف نترجم هذه الرؤية الإيجابية إلى سياسات وخطوات عملية؟
البداية تكون دائمًا من الاعتراف بالتوحد كجزء صريح من أجندة الاقتصاد القومي، لا مجرد ملف اجتماعي ثانوي، وذلك يعني أن تحدث الدولة بياناتها بصورة دورية عن أعداد الأطفال والشباب على الطيف، وأن تقدر ولو بصورة تقريبية الكلفة الحالية للتوحد مقابل سيناريوهات الاستثمار في التدخل المبكر والتعليم الدامج، وأن تدمج صوت الأسر والأخصائيين في صياغة السياسات، وأن تعتبر كل برنامج ناجح لتحسين استقلالية هؤلاء الأطفال مشروعًا اقتصاديًا ناجحًا، لا مجرد مبادرة خيرية عابرة.
إنها دعوة صريحة لإعادة تعريف "اقتصاد التوحد"، فمن ينظر إلى هذا الطفل كـ"بند إنفاق" يضغط على ميزانية الأسرة والدولة، عليه أن يراه استثمارًا طويل الأجل في إنسان مختلف قادر على العطاء بطريقته الخاصة، وعلينا أن ننتقل من لغة الشكوى من "فاتورة التوحد" إلى لغة التخطيط لـ"عائد التوحد" على رأس المال البشري والاقتصاد القومي؛ وهنا لن يتكرر السؤال الممل: "كم يكلفنا التوحد؟" بل: كم نربح إنسانيًا واقتصاديًا، عندما نمنح هذه الطاقات فرصة عادلة للظهور والعمل والاندماج؟