لم أخف من رمسيس.. ولو خفت لفشلت

رجل المهمة المستحيلة الذى لا يعرفه أحد.. أحمد الغرباوى قاد موكب رمسيس من باب الحديد إلى المتحف المصرى الكبير.. وحمل على كتفيه 83 طنًا من التاريخ متحديًا المخاطر.. واستلهم الثبات من وجه الملك فهتف الأهالى باسمه

الأربعاء، 05 نوفمبر 2025 09:00 ص
رجل المهمة المستحيلة الذى لا يعرفه أحد.. أحمد الغرباوى قاد موكب رمسيس من باب الحديد إلى المتحف المصرى الكبير.. وحمل على كتفيه 83 طنًا من التاريخ متحديًا المخاطر.. واستلهم الثبات من وجه الملك فهتف الأهالى باسمه اليوم السابع فى منزل أحمد الغرباوى

تحقيق: هبة الشافعي

تسعة عشر عامًا مضت على واحدة من أعظم اللحظات فى تاريخ الآثار المصرية الحديثة، لحظة انتقال تمثال الفرعون المحارب رمسيس الثاني من ميدان باب الحديد – "رمسيس حاليًا" – إلى موقعه الجديد أمام المتحف المصرى الكبير.

كان الحدث هندسيًا جللًا ومعقدا للغاية، لكنه أيضًا حكاية إنسانية فريدة عن رجل بسيط قاد بمهارة وهدوء موكب ملك عظيم، وحمل على عاتقه مسؤولية أجيال من الحلم والفخر الوطني.

من ميت رهينة إلى قلب القاهرة

لم تكن تلك المرة الأولى التى ينتقل فيها التمثال الضخم، فمنذ أن اكتشفه عالم الآثار الإيطالى جيوفانى باتيستا كافيجليا عام 1820 بالقرب من ميت رهينة بالجيزة، وهو يقاوم السفر والاغتراب، فكان هذا فى عهد الوالى محمد على باشا الذى حاول إهداءه إلى بريطانيا، لكن الأخيرة رفضت بسبب وزنه الذى تجاوز 83 طنًا، فعجزوا عن نقله، فظل فى مكانه قرابة 130 عامًا مغطى بالطين والتراب، ولا أحد يدرك قيمته الحقيقية.

حتى جاءت ثورة يوليو 1952، ومع قيام الجمهورية، أراد الرئيس جمال عبد الناصر أن يبعث رسالة سياسية وحضارية للعالم، تُعيد لمصر مجدها القديم، من خلال الملك رمسيس الثانى الذى عرف بالـ " الفرعون المحارب" فأصدر قرارًا بنقل تمثاله إلى قلب العاصمة، إلى ميدان باب الحديد، الذى غيّر اسمه لاحقًا ليحمل اسمه ويصبح "ميدان رمسيس".

وفي هذا الوقت أسندت المهمة الي الدكتور الفنان أحمد عثمان – مؤسس كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية وأحد كبار النحاتين المصريين، الذى تولي الإشراف الفني والهندسي على عملية الترميم، والنقل الي الميدان وذلك من خلال مركبات هندسية او مقطورات شحن ثقيلة تابعة للجيش والتي نقلت أجزاء التمثال، ثم بعد ذلك تم جمع أجزاءه (الذراع، القدم، الرأس…)، وتثبيتها بمواد حديثة، وصُمّمت له قاعدة خرسانية ضخمة، ونجحوا في أن يقف التمثال لأول مرة شامخًا في الميدان، في واحدة من اهم وانجح عملية نقل أثر بهذا الحجم في تاريخ مصر الحديثة.

التلوث يهدد الفرعون

وعلى مدار أكثر من نصف قرن ظل رمسيس واقفًا شامخًا، كما أراد له صاحبه الذى نحته من الجرانيت الوردى ليخلّد مجده، لكن التلوث البيئى والضوضاء والاهتزازات الناتجة من حركة السيارات، إلى جانب التلوث البصرى الناتج عن الكبارى المحيطة، جعلت فكرة نقله من جديد مطروحة منذ عام 1994، ورغم صعوبة الفكرة وتعقيدها، استمرت النقاشات حتى وقع الاختيار على هضبة الأهرامات بجوار المتحف المصرى الكبير لتكون مقره الجديد.

فكرة مجنونة.. ونقل مستحيل

وفى عام 2004 أعلنت هيئة الآثار عن مناقصة لنقل التمثال، وطرحت الحلول بين تفكيكه مجددًا أو نقله أفقيًا "نائمًا" لكن المهندس الدكتور أحمد محمد حسين، أستاذ الهندسة بجامعة عين شمس، فاجأ الجميع بفكرة بدت أقرب إلى المستحيل: "سينتقل التمثال واقفًا".

اقتُرحت الفكرة داخل شركة المقاولون العرب بعد دراسة تحليل المخاطر، واعتُبرت فى البداية ضربًا من الخيال، كيف يمكن لتمثال وزنه أكثر من 83 طنًا أن يصعد الكبارى ويهبط المطبات دون أن يتحطم؟.. ولكن الدكتور حسين قدم حلًا عبقريًا، أن يتم تثبيت التمثال داخل هيكل متحرك يسمح له بالـ“تأرجح” للحفاظ على مركز ثقله ومنع سقوطه، رفضها الجميع فى البداية.

حتى جاء التحدى وشككت شركة فرنسية فى قدرة المصريين على تنفيذ المهمة، فقرر الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك أن يصدر قرارا سياديا "بنقل التمثال خلال أربعة أشهر"، وبالفعل تم تصنيع معدات خاصة، والاستعانة بونش عملاق تصل سعته إلى 475 طنًا، وبُنى مجسم تجريبى لاختبار عملية النقل الواقف، وبدأت الاستعدادات لأعظم عملية نقل فى التاريخ المصرى الحديث.

 

 

اختيار رجل المهام الصعبة

وسط كل هذه الترتيبات الهندسية والعلمية، كان هناك رجل واحد سيحمل على كتفيه ثِقَل القرون الماضية، سائق الشاحنة التى ستنقل الملك،كان السؤال: من يمكنه أن يتحمل هذه المسؤولية؟ مصرى أم أجنبي؟، إلى أن وقع الاختيار على الحاج أحمد الغرباوى، ابن قرية الخوالد بمحافظة البحيرة، والذى كان فى الخامسة والستين من عمره، والذى قضى أكثر من أربعين عامًا خلف عجلة القيادة دون أن يرتكب خطأ واحدًا.

فقررت شركة نوسكو أن تسند إليه المهمة بدلًا من السائق الألمانى، ثقة فى خبرته وثباته، وسمعته فى دقته وانضباطه.

بداية الرحلة

قبل أن يستعد السائق لبدء رحلته، رفض الغرباوى التحرك قبل أن يجلس أمام التمثال لحظات طويلة، يتأمل وجه الملك كأنه يستمد منه القوة، ثم قال عبارته الشهيرة: "على بركة الله يا مولانا".

انطلقت الشاحنة الضخمة ذات الـ128 عجلة، تقطع 30 كيلومترًا بسرعة لا تتجاوز 4 كيلومترات فى الساعة.
استغرقت الرحلة 11 ساعة من الخطر والترقب، وعندما مرت الشاحنة فوق أحد الجسور القديمة ورصدت أجهزة القياس اهتزازًا بسيطًا، ظل الغرباوى ثابتًا، يضبط أنفاسه على إيقاع التاريخ، حتى تجاوز الخطر وسط تصفيق الجميع.

البطل الذى لم يُكرَّم

ولأن هذا الرجل البسيط الذى كتب اسمه فى سجل الأبطال بصمتٍ وتواضع، كانت عملية البحث عنه صعبة للغاية، لكن إيمانًا منا بدوره فى حماية تاريخنا كان لابد من سرد المقدمة السابقة، وأن نلتقى به فى “تلفزيون اليوم السابع” بعد تسعة عشر عامًا، أى ما يقرب من عقدين، لنعرف من هو، وكواليس اختياره، وكيف شعر فى تلك اللحظات.

لكن لم يحالفنا الحظ فى لقائه عندما ذهبنا إلى قريته الصغيرة “قرية الخوالد” التابعة لمركز إيتاى البارود بمحافظة البحيرة، لأنه لقى ربه منذ سنوات، وتحديدًا فى عام 2011، ولم تتحقق أمنيته فى حضور هذا المشهد المهيب، افتتاح المتحف المصرى الكبير، حيث استقرار تمثال رمسيس الثانى الأخير.

ولأن الحكايات يرثها الأبناء، التقينا بأسرة الحاج أحمد الغرباوى، فى حوار خاص أجريته أنا هبة الشافعى، تحكى أسرته كواليس اليوم الأصعب فى تاريخه وتاريخ مصر، وتكشف كيف استعد لتلك المهمة الفريدة، وماذا قال عندما كُلِّف بقيادة الموكب، وكيف عاش مشاعر الخوف والفخر فى أن واحد.

“يا غرباوي… يا غرباوي!”

قال ناصر أحمد الغرباوى أن والده قاده القدر ليكون “سائق موكب الملك، فعلى الرغم من أنه اعتاد أن يسير فى طريقه دون ضجيج أو صخب إعلامى أو هتافات، فإن الأمر اختلف تمامًا وهو يحمل رمسيس الثانى، فقد هتف الجماهير باسمه لأول مرة فى حياته، سمعهم وهو يقود "الكسّاحة" يهتفون: "يا غرباوي… يا غرباوي!"، لكنه لم يستطع أن ينظر إليهم أو يبادلهم التحية، فمهمته الثقيلة تتطلب كل تركيزه، ولا تدع له فرصة التفكير فى أى شيء خارجها.

وقال الغرباوى، إن رحلته التاريخية لم تختلف عن أى رحلة قام بها على المستوى الفنى، لكن الفارق الوحيد هو فى أهمية التمثال وقيمته، فهو يحمل ملكًا على شاحنته لأول مرة فى حياته، لكنه رغم ذلك لم يخف ولم يرهبه الموقف، لأنه لو خاف لما استطاع أن يؤدى المهمة بنجاح.

وأضاف صبرى الغرباوى، ابن شقيقه، أن الشركة التى كان يعمل بها أطلقت عليه لقب رجل المهام الصعبة، فبرغم أنه بلغ سن المعاش وقتها، فإن شركته تمسكت به لندرته فى مجاله، إذ كان يسير بالشاحنة كأنه يقود دراجة يتحكم فيها كما يشاء.

وقف أمام التمثال وتحدث إليه قبل الرحيل حديثًا خاصًا بينهما، وكان يسير بسرعة أربعة كيلومترات فى الساعة، فى مشوار طوله ثلاثون كيلومترًا، وكان سائقًا محترفًا، وكان من المفترض أن يقوم بالمهمة سائق ألمانى جاء مع الشاحنة لأنه هو من يعرف قيادتها، لكن شركة “نوسكو” تحدّت الجميع وأصرّت على أن الحاج أحمد الغرباوى هو من يتولى هذه المهمة.

وأضح انه كان فخورًا بالشاحنة التى كان يقودها، إذ كانت ذات مواصفات خاصة لم يقد مثلها من قبل، لأنها صُمِّمت خصيصًا لنقل تمثال رمسيس. ومع ذلك لم يهب الموقف، واستطاع أن يقودها ببراعة شديدة وشعرنا بالفخر، وكانت ردود الفعل عليه كبيرة، وكان يجب أن يُكرَّم، لكنه لم يُكرَّم من أحد. ووُعِد بقطعة أرض فى منطقة حوش عيسى لكنه لم يستطع الحصول عليها، وكان ينتظر تكريمًا لم يتحقق.

وبعد النقل، زار التمثال فى مقره الجديد، وكان يشعر بفخر كبير، وقال إنه عندما وصل التمثال إلى المتحف شعر براحة كبيرة، لأنه أدى المهمة بنجاح.

أما "ابنته" أم كنزى الغرباوى، وصفت المشهد بأنها كانت تشعر بالخوف الشديد عليه أثناء الرحلة، لكنه كان دائمًا يطمئنهم، وكان هو الاختيار الأول للشركة، فكلما وُجدت شاحنة كبيرة أو مهمة صعبة كانوا يستعينون به وقالوا إنهم كانوا يبكون أثناء الرحلة من القلق عليه، وتمنّوا لو كانوا معه، وكانوا يتواصلون معه عبر الهاتف، ومن شدة ثقته بنفسه، كان يقول لهم إنه يستطيع أن يعود بالتمثال إلى الخلف “مارشدير”!.

وأضافت، كان مبدأه فى الحياة البساطة، ولم يحمل لها همًّا أو عبئًا، والمشوار الذى أدخله التاريخ كان بالنسبة له تميّزًا وفخرًا كبيرًا، ولم يدرك يومًا أنه سيكون جزءًا من التاريخ ، وعندما عاد قال إن سعادة الناس كانت تُحمّله مسؤولية أكبر، وكان يرى فى الحدث احتفالًا مثلهم، لكنه شعر بأن فرحتهم زادته التزامًا وثباتًا.

المصرى أم الألماني؟

وأضافت ابنته انه قضى عمره على الطريق، واختير بدل السائق الألمانى لجدارته، لأن الألمانى لا يعرف شوارع مصر ولا طرقها، وهو الأحق بأن يحمل تمثال بلده، ويقوم بعمل شيء لمصر أكثر من الأجنبى، ولم يقبل أن يُقال أن الألمانى تفوق على المصرى فى القيادة.

وأوضحت أن أبناؤه يشعرون بالفخر بوالدهم، ولم يتوقعوا أن يتذكره أحد بعد كل هذه السنين أو أن يشعر به أحد، فقد كان “أبو السواقين جميعًا”، وكان يحب زملاءه جميعًا.

وقال سامح الغرباوى، ابن شقيقه، الذى يعمل بالمهنة نفسها، أن عمه رفض أن يكون معه مساعد، لأنه كان واثقًا فى نفسه، ولم يرد أن يساعده أحد فى رحلة الساعات الإحدى عشرة. وكانت الشاحنة التى يقودها تضم 128 عجلة، وهى مركبة صعبة القيادة لأنها مخصَّصة لحمل التمثال، وما فعله كان فخرًا له ولعائلته ولمحافظته البحيرة.

وعن أمنيته قبل الوفاة، قالوا إنها كانت التكريم، وأن يتذكره أحد، لكنه تُوفى عام 2011 دون أن تتحقق أمنيته.
وأردنا أن نذهب إلى الجيل الجديد، فالتقينا إحدى حفيداته، الطفلة كارما، التى تبلغ من العمر تسع سنوات، لنتعرف منها على ما تعرفه عن جدها أحمد الغرباوى وقيمته.

اقتصرت كلماتها الصغيرة على تعبير بسيط لكنه عميق، إذ قالت إنها تشعر بالفخر بما فعله جدها، وإنها تسعد كلما حكى لها والدها هذه القصة، وقصصًا أخرى عن عظمة جدها “حامل الفرعون” ووارث قوته وإخلاصه.

انتهت رحلتنا فى قرية الخوالد بعد أن عرفنا وعايشنا يومًا فى هذه القرية التى أنجبت واحدًا من أعظم أبنائها، الرجل الذى كان جزءًا من تخليد ذلك اليوم التاريخى، وتحديدًا فى الخامس والعشرين من أغسطس عام 2006، عندما كان قلب الشعب المصرى ينبض خوفًا وفرحًا فى أن واحد.

كان التمثال يتحرك على شاحنة ضخمة تضم 128 عجلة، يسير ببطء شديد لا يتجاوز أربعة كيلومترات فى الساعة، فى رحلة استغرقت أكثر من إحدى عشرة ساعة.

رحلة خلدت اسم الأسطى أحمد الغرباوى فى ذاكرة الوطن، ليبقى شاهدًا على أن البطولة لا تحتاج ألقابًا، بل تحتاج قلبًا صادقًا وعشقًا لمصر، فنقل تمثال رمسيس لم يكن مجرد حدثٍ هندسى أو أثرى، بل كان أيضا حكاية إنسانية عظيمة عن رجلٍ بسيط صار بطلًا فى يومٍ واحد، حين قاد موكب ملكٍ عظيم إلى بيته الجديد.

572774085_25110995548590067_3250532085868380663_n

موكب نقل تمثال رمسيس من ميدان رمسيس إلى المتحف المصرى

 

 

573318333_25110988101924145_6648048907405301894_n
 نقل تمثال رمسيس من ميدان رمسيس إلى المتحف المصرى
 
574037656_25110831145273174_6157363550879629722_n
 نقل تمثال رمسيس من ميدان رمسيس إلى المتحف المصرى
 
574277374_25110830818606540_7990212122064612653_n
 موكب نقل تمثال رمسيس
 
574404326_25110988348590787_5751669504770164997_n
نقل تمثال رمسيس من ميدان رمسيس إلى المتحف المصرى
 
 
f4d32980-6efc-43c7-bdbe-28a89f2f9f55
نقل التمثال

 

84c49310-58cb-488e-8638-9e6cbb6b928a
سائق موكب نقل تمثال رمسيس
 
f4d32980-6efc-43c7-bdbe-28a89f2f9f55
نقل التمثال

 

f9556264-e697-421d-a2a1-165359494784
تمثال رمسيس
 
00b8f37c-c5df-46e2-af52-63c4f682f384
الزميلة هبة الشافعى مع أسرة سائق تمثال رمسيس
 

 

3ec28bc9-e234-49a6-9cbc-15b51268c44b
رحلة نقل تمثال رمسيس
 

 

4ac623be-beec-486a-aa99-1cd550b07c87
 سائق موكب تمثال رمسيس
 
33a73151-95db-4cb0-9ad5-b295592fb47f
الزميلة هبة الشافعى مع أسرة سائق موكب تمثال رمسيس
 
469ed3dd-014c-41f1-9b4c-695d787f721e
سائق نقل موكب تمثال رمسيس
 
db81cade-76f3-4f13-b912-5d05b5bb4c6f
عائلة سائق موكب نقل تمثال رمسيس
 
f1623002-e537-4d2b-ac3b-051f1a841ff4
 نقل تمثال رمسيس إلى المتحف المصرى
 



أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب