- نقيب صيادلة القاهرة: الأزمة مبالغ فيها والمرضى أحيانًا يطلبون الأقراص بدل الفكة
- خبراء يحذرون: قرص مسكن بدل الفكة قد يقود للفشل الكلوى وتليف الكبد
فى مشهد مألوف داخل بعض الصيدليات بالمناطق الشعبية، تمتد يد المريض منتظرة «الفكة»، فيغادر بقرص مسكن أو فوار حموضة بدلًا منها، ممارسة قديمة تعود لعقود، ما زالت قائمة وتثير جدلًا بين من يراها حلًا عمليًا لأزمة نقص العملات المعدنية، ومن يعتبرها استغلالًا لحق المريض وتهديدًا لصحته.
تتجلى وراءها مخاطر صرف الأدوية دون وصفة طبية، وتُطرح أسئلة حول مسؤولية الصيدليات ودور الرقابة وحدود حق المريض فى تقرير ما يدخل جسده، إذ لا تبرر الأزمة إلحاق الضرر بالناس.
يقول أحد الصيادلة: «دى عادة قديمة من أيام شرايط الريفو بربع جنيه»، بينما يؤكد آخرون أن العملاء اعتادوا على الأمر.
فى المقابل، يرفض بعضهم الممارسة تمامًا، معتبرين أن «إعطاء دواء بدل نقود» يربك المريض ويشجعه على استخدام علاج لا يحتاجه، فيما يرى آخرون أن الحل الأنسب هو تأجيل صرف الفكة بدلًا من استبدالها بدواء.. وتبقى الظاهرة موضع تساؤل: هل هى حل عملى لأزمة «الفكة» أم استغلال غير مباشر للمريض؟
يرى خبراء الصيدلة أن خطورتها لا تقتصر على الجانب المادى، بل تمتد إلى مخاطر طبية، خاصة لمرضى الأمراض المزمنة الذين قد تتفاعل الأدوية الجديدة مع علاجهم الأساسى.
عادة قديمة تتحول إلى نظام
يقول أحد الصيادلة: «يا راجل ده من زمان لينا سنين على كده من أيام شرايط الريفو لما كان المتر بربع جنيه».. شهادة تؤكد أن الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى عقود مضت حين كانت بعض الأقراص تباع بأسعار زهيدة، وتستخدم كحل عملى لأزمة نقص الفكة.
صيدلى آخر يضيف: «الحوار ده قديم فى الصيدليات، لما كان فوار الحموضة والمسكن بربع جنيه».. فى إشارة إلى أن منتجات بعينها صارت وسيلة بديلة للعملات المعدنية، ما جعل الممارسة أشبه بنظام داخلى غير مكتوب فى السوق.
أصوات رافضة: «بستحرمها»
لكن على الجانب الآخر، هناك من يرفض المبدأ برمته، يقول أحد الصيادلة: «أنا مبرضاش أعمل كده.. بستحرمها بصراحة»، بالنسبة له، المسألة لا تتعلق فقط بالمال، بل بحق المريض فى تقرير ما يتناوله من أدوية.
ويرى آخر أن البديل البسيط هو تأجيل الفكة: «لو حد ليه جنيه بقوله عدى عليا كمان شويه».. وهو اقتراح يعكس إدراك بعض العاملين أن صرف دواء بلا داعٍ قد يحمل تبعات صحية خطيرة.
ما بين الحل العملى والاستغلال
بين القبول والرفض، يقف المريض متسائلًا: هل يحصل حقًا على «خدمة إضافية» بدل الفكة، أم أن الأمر وسيلة لزيادة المبيعات؟ فبحسب بعض الصيادلة، ترفع هذه الممارسة مبيعات المسكنات بعشرات العلب شهريًا، محوّلة الفكة إلى أرباح إضافية.
الدكتور محمد الشيخ، عضو مجلس الشيوخ ونقيب صيادلة القاهرة، نفى وجود أزمة فكة حقيقية داخل الصيدليات، موضحًا أن أغلبها يوفر العملات المعدنية أو يتنازل الصيدلى عن المبالغ البسيطة، وأحيانًا يطلب من المريض استكمالها لاحقًا، وأكد أن بعض المرضى- خاصة فى المناطق الشعبية- هم من يطلبون شراء قرص أو قرصين كبديل عن الفكة، مشددًا على أن الأمر طوعى وليس إلزاميًا، وأن النقابة لم تتلق أى شكاوى بهذا الشأن، مضيفًا: «الموضوع بسيط.. الصيدلى بيتنازل أو يقول المرة الجاية».
فى المقابل، حذّرت الدكتورة ياسمين أبوزيد، أستاذ مساعد بكلية الصيدلة جامعة حلوان، من مخاطر تناول المسكنات دون حاجة، مؤكدة أنها قد تسبب فشلًا كلويًا أو كبديًا وقرحة بالمعدة وضعفًا بالمناعة، وأوضحت أن استبدال الفكة بالأدوية يعطى انطباعًا خاطئًا بأن المسكنات آمنة، رغم أن الكبد والكلى هما المسؤولان عن التخلص من مفعولها، مما يرهقهما على المدى الطويل، وأشارت إلى أن القانون لا يجيز بيع الأدوية بالتجزئة، داعيةً النقابة لتكثيف الرقابة والتوعية فى القرى والمناطق النائية، مع تشجيع الدفع الإلكترونى أو توفير فكة نقدية لتجنب صرف الأقراص بدل النقود.
أما الدكتور محمود لطفى صقر، أستاذ ورئيس قسم السموم بكلية الطب جامعة عين شمس، فحذّر من شراء الأدوية، خاصة المسكنات والمضادات الحيوية، دون وصفة طبية، مؤكدًا أن ذلك قد يؤدى إلى قرح ونزيف بالمعدة وتلف بالكبد والكلى وارتفاع ضغط الدم، بل والإدمان فى حالة المسكنات الأفيونية، وأوضح أن تجاوز الجرعة أو تقسيم الأقراص يقلل الفاعلية أو يسبب مضاعفات خطيرة، خاصة لمرضى الضغط والقلب والسكر، كما شدد على مسؤولية الصيدلى القانونية عند صرف أى دواء دون «روشتة»، مؤكدًا ضرورة تجريم هذا السلوك لتفادى «الكوارث الصحية» الناتجة عن التسمم الدوائى الذى قد يصل إلى الغيبوبة أو الوفاة.
استبيان مصغر
أجرت «اليوم السابع» جولة سريعة واستبيانا مصغرا بين المواطنين، حول القضية، حيث تنوعت الإجابات بين الرفض والقبول، يقول الحاج مصطفى 62 سنة، وصاحب محل بقالة: «هو أنا ناقص دواء.. أنا بروح الصيدلية آخد العلاج اللى مكتوب لى، مش آخد أى قرص كده عشان يبقى فكة.. ده اسمه لعب بصحة الناس».
أم ياسر، 35 سنة، ربة منزل، تقول: «بصراحة ساعات بقبل.. يعنى لو الحساب 98 جنيه والدكتور قالى، مفيش مشكلة آخد قرص مسكن مكان الـ2 جنيه، خلاص مش فارقة.. بس أكيد ده غلط».
أحمد 28 سنة، موظف، يقول: «أنا عمرى ما أخدت دوا بدل فلوس، بس بشوفها بتحصل، اللى بيخوف إن فى ناس ممكن تاخد الدوا وتستعمله من غير ما تحتاجه، وده أخطر حاجة».
منى 21 سنة، طالبة، تقول: «أنا برفض تمامًا.. الدوا مش لعبة، وماينفعش يبقى وسيلة لتسوية الحساب».
عم سيد، 75 سنة، بالمعاش، يقول: «يا ابنى من زمان بنشوف حاجات عجيبة، بس أول مرة الدوا يبقى فكة، لو كده كان زمانى ماشى بكيس دوا أوزع بيه على الجيران بدل الفكة بتاعة السوبر ماركت».
وبعيدًا عن الأرقام والشهادات، تكشف الظاهرة عن بعد اجتماعى أعمق، يشير إلى أن ثقافة «الدواء سهل» أصبحت جزءًا من الأزمة، فالمواطن اعتاد الحصول على أقراص مسكنة أو فوار حموضة دون وصفة، وأحيانًا كـ«فكة» أو «هدية صغيرة» من الصيدلية، هذا التقبل الاجتماعى جعل الدواء يعامل كسلعة عادية، لا كمنتج علاجى يحتاج لضوابط.
النتيجة أن المريض لا يرى خطورة فى الحصول على «قرص بدل الفكة»، بينما يجد بعض الصيادلة مبررًا لهذا الأمر، فيتحول الأمر إلى ممارسة متكررة تعزز فكرة الاستخدام العشوائى للدواء، بما يحمله من مخاطر صحية طويلة المدى.
مقارنة دولية
بينما يظل بيع الأقراص بشكل منفرد فى مصر جزءًا من واقع بعض الصيدليات، فإن تجارب دول أخرى تكشف عن نماذج أكثر صرامة فى التعامل مع الظاهرة، ففى السويد مثلًا، جرى منع بيع أقراص الباراسيتامول خارج الصيدليات منذ عام 2015، بعدما رصدت السلطات الصحية ارتفاع حالات التسمم بسبب سهولة الحصول على الدواء.
أما فى بولندا، فقد وضعت الحكومة قائمة محددة للأدوية المسموح ببيعها فى متاجر عامة، لكنها قيدت ذلك بعبوات موحدة وتخزين منضبط، مع وجود شخص مخول بالإشراف.
وفى إيطاليا والنرويج، يسمح ببيع بعض الأدوية التى لا تحتاج إلى وصفة طبية فى منافذ غير الصيدليات، لكن بشرط حضور صيدلى معتمد، وفرض قيود على حجم العبوات وعددها، بما يمنع الاستخدام المفرط أو التجارى للدواء.
بينما اتجهت دول جنوب شرق آسيا، مثل فيتنام وتايلاند، إلى وضع أنظمة تقييم للمخاطر قبل السماح لأى دواء بأن يصرف دون وصفة، وهو ما أدى إلى تضييق دائرة البيع العشوائى.
هذه التجارب تعكس حقيقة أن التعامل مع الدواء كـ«سلعة استهلاكية» يقود إلى مشكلات صحية جسيمة، وهو ما جعل أغلب الدول توازن بين إتاحة الوصول للأدوية الأساسية وبين ضمان أن تظل عملية الصرف تحت رقابة مهنية وقانونية دقيقة.
دراسة وأرقام صادمة
تكشف دراسات حديثة حجم انتشار ظاهرة استخدام المسكنات دون وصفة طبية فى مصر بصورة لافتة، إذ أظهرت دراسة منشورة فى PubMed عام 2024 «المكتبة الوطنية للطب الأمريكية»، أن نحو 60.74% من المصريين الذين يمارسون «الاستخدام العشوائى للدواء» يعتمدون على المسكنات تحديدًا «PubMed. 2024» وبين طلاب كليات الطب وصلت النسبة إلى 92.4% بحسب دراسة منشورة فى «PMC. 2024»، بينما سجلت دراسة محلية فى قرية بالإسماعيلية أن 96% من المرضى لجأوا إلى الدواء دون وصفة، وكان المسكن هو الخيار الأول وفقا لـ«SpringerOpen. 2020» التابعة لدار النشر العالمية Springer Nature.
وفى جامعة المنيا، اعترف 95.9% من الطلاب باستخدام المسكنات دون روشتة، خاصة الباراسيتامول «MJMR. 2022» وهى مجلة طبية مصرية تنشر أبحاثًا فى المجال الطبى والصحى.
أما على المستوى الإقليمى، فقد رصدت دراسة نشرت فى PubMed عام 2023 أن مصر سجلت أعلى نسبة ممارسة بين الدول العربية خلال جائحة كورونا بنسبة 72.1%، وكانت المسكنات فى مقدمة الأدوية المستخدمة، هذه الأرقام لا تعكس فقط شيوع الظاهرة محليًا، بل تضع مصر ضمن الدول الأعلى عالميًا فى معدلات استهلاك المسكنات دون وصفة، مقارنة بدول أوروبية مثل السويد أو بولندا التى شددت القيود على بيع الأقراص المفردة منذ سنوات.
ووفقًا لحسابات تقريبية، إذا كانت صيدلية واحدة تبيع ما لا يقل عن 10 أقراص «مفردة» يوميًا كبديل عن الفكة، فإن الرقم يصل إلى نحو 300 قرص شهريًا وما يقارب 3650 قرصًا سنويًا، ولو اعتبرنا أن متوسط سعر القرص المفرد يتراوح بين 1 - 2 جنيه، فإن هذا يعنى أن الصيدلية قد تحقق ما بين 300 إلى 600 جنيه شهريًا، أى ما يقارب 3600 - 7200 جنيه سنويًا من مجرد «تجزئة الأقراص».
وبذلك، يتضح أن القضية ليست مجرد «مبالغ زهيدة» أو «حل أزمة فكة»، وإنما تتحول بالتكرار إلى أرباح إضافية كبيرة تشجع على استدامة الظاهرة وتحويلها إلى ممارسة تجارية غير رسمية داخل سوق الدواء.
فى النهاية، يظل السؤال مطروحًا.. هل حان الوقت لتدخل الجهات الرقابية لوضع ضوابط واضحة تمنع تحويل «الفكة» إلى دواء؟
