المتحف المصرى الكبير ليس مجرد مكان يعرض آثارا تمتد لآلاف السنين، لكنه تعبير عن هوية مصرية تجعل مصر والمصريين يختلفون عن الكثير من الشعوب والدول من حولهم، من دون أن يكون فى الأمر أى نوع من التعالى، بل إن حضارة مصر هى نتاج تفاعل على مدى قرون، وامتزاج مع كل العناصر المحيطة أو الغازية، ينتهى بأن تصهر الحضارة المصرية ماعداها وتحولها إلى عنصر مصرى خالص، ويمثل موقع مصر الجغرافى بوابة لأفريقيا وآسيا، ثم إنها ممر للتجارة والاستقرار، والتبادل من الغرب إلى الشرق ومن الجنوب للشمال والعكس، وبالتالى فقد كانت الهجرات الطوعية ومواكب التجارة والحج تمر بها وتترك بعضها وتنقل من مصر الكثير من اللهجة والسلوك.
ظلت مصر مكانا مستقرا بالخيرات والزراعة والبناء، وهو ما جعلها مكانا جاذبا للاستقرار من كل الجهات، وملجأ للمضطهدين والمطاردين وطلاب العالم وحاملى المعارف والفنون، من هنا نرى أن المتحف المصرى الكبير بوصفه أكبر متحف لحضارة واحدة على الأرض، وهى الحضارة المصرية القديمة، وافتتاحه أصبح مناسبة لتوحد المصريين وفخرهم بأصولهم، حيث اجتمعوا بشكل تلقائى على عمل يمثل هويتهم ومصريتهم وتاريخهم وحضارتهم.
لكن ظهر فى الأفق بعض صناع التعصب والكراهية والنكد، الذين سعوا طوال سنوات إلى محو هوية تميز مصر، وتضع الأمة المصرية فى مكانتها التى تليق بتاريخها وما قدمته للحضارة الإنسانية، من دون أن تنسلخ من محيطها الطبيعى، الذى أثرت فيه وغيرته طبقا لطبيعته، التى تستعصى أحيانا على فهم ضيقى العقل والأفق.
حضارة مصر تتشابك وتمتزج بمحيطها الأفريقى والعربى والآسيوى، لكنها ليست أيا من هذا كله، بل هى نسيج وحدها من انصهار وتفاعل أقرب لتفاعلات العالم الجيولوجى والكيميائى، لتنتج ناتجا مختلفا عن عناصره المتاحة، التى تميز «الهوية المصرية» بعيدا عن مزاعم أو محاولات تخويف وتجهيل علقت بها من عقود التعصب والتخلف، والتى استوردها جهلاء وتجار دين، حاولوا تخويف المصريين من هويتهم ومن إيمانهم الذى سبقوا به الديانات السماوية بآلاف السنين.
ظهر على مدى السنوات الماضية تحالف غير مرئى بين التيارات المتطرفة وبعض النخب الثقافية من مدعى اليسار أو اليمين، وهؤلاء ينتمون إلى تيار يروج ويشعر بالدونية تجاه العالم، وينفى وجود الهوية المصرية التى تختلف عن مكوناتها الأساسية، خاصة بعض المتطرفين من مبتدعى الأحاديث والمقولات المدسوسة، يخلطون بين نصوص دينية ونصوص تاريخية وعلوم آثار وتاريخ، ويحاولون لى نصوص دينية لتطابق أمرا لم يثبت أن له وجودا.
الواقع أن رمسيس الثانى وحكام مصر القديمة، وقصة يوسف وأخوته، لا علاقة لهم ولا لغيرهم بما ورد فى أساطير وروايات ليس لأى منها أصل، وهذا لا يمثل طعنا فى الدين، لكنه تاريخ يمثل أمرا آخر، حيث تمثل القصص التاريخية أو الدينية نقاطا صغيرة فى سجل التاريخ، بينما الحضارة المصرية أعمق وأوسع، وبعض القصص فى الكتب الدينية هى أمثلة ليست لها تاريخ محدد أو عصر معين، بينما الملوك والأسرات والحكام المصريون، لكل منهم تاريخ وأزمنة، لا يوجد لأغلبها ما يشير إلى أى من قصص المرويات، خاصة أن حضارة مصر القديمة مسجلة على المعابد والجدران، والغيمان بمفهومه المعروف ظهر فى مصر قبل أن يعرفه العالم بقرون، وعندما دخلت المسيحية مصر اتخذت شكلا يختلف عن كل العالم، لأنها أخذت من صفات المصريين وحضارتهم وعاداتهم، وهو ما تكرر مع العرب القادمين بالإسلام، الذين ظلوا خارج المدن لعقود، بينما اتخذ الإيمان من مصر شكلا ومضمونا وتفاصيل.
ثم إن المصريين القدماء اعتادوا تسجيل تاريخهم على الجدران والمعابد، وجمعوا بين الهندسة والطب والحكمة، مع ما رافقها من حضارة تحكم بالقانون وتصنع العدالة والحقوق، وكلها مسجلة وبعضها لا يزال ضمن الأسرار، بينما كانت القبائل أو الإمارات من حولها شرقا أو عبر المتوسط تعيش فى تجمعات قبلية، كان المصريون قد اكتشفوا الكتابة والدين والثقافة والعدالة والطعام والحياة المميزة، وبالتالى فقد اتخذ الإسلام شكلا مختلفا مع مصر، وتغيرت أشكال الفقه والتفكير وصارت أقرب للفلسفة، مثلما امتزج الدين بالحضارات الفارسية والهندية والصينية والأشورية والرومية، والأوربية، ومن هنا اتخذ الدين أشكالا متنوعة وتأثر بالفسفة والأفكار والعقائد المختلفة، وهنا نقصد الثقافات التى جعلت الإيمان مختلفا فى أشكاله وأنواعه.
ومن هنا، فإن ادعاءات المتطرفين والمفلسين وصناع الجهل والنكد والكراهية المتعصبين عبيد النصوص التى ليست فى القرآن، وإنما يقدسون أحاديث لم يثبت صحتها وبعضها يناقض القرآن، وتنتمى رواياتهم إلى ما يسمى إسرائيليات، حيث أراد اليهود أن يصنعوا أنفسهم أصحاب بناء، بينما التاريخ يكذب مقولاتهم عن أنفسهم وعن حقهم فى أرض فلسطين أو غيرها، لكن السلفيين يحاولون توظيف هذه الأساطير لخدمة مصالحهم.
نحن أمام تفاصيل بدأت قبل أن تنزل أى ديانات سماوية، فقبل 7 آلاف عام كانت الحضارة المصرية قائمة وقوية تعلم وتنقل للعالم، بينما كانت باقى الأمم والممالك تعيش ما قبل التحضر، والمتحف الكبير يحمل هذا المعنى، وكيف انتقلت العلوم والفلسفة من مصر للعالم، بينما القصص الدينية كانت بعد قرون وتخلو الوثائق أو التدوينات التاريخية أو التواريخ من أى أثر يوثقها، وبالتالى فإن الادعاء بأن مصر لم تعرف التحضر إلا مع دخول الإسلام، جهل بالتاريخ وبالإسلام، الذى تحضر فى مصر مثلما حدث مع المسيحية، وانتقل من البداوة إلى العمق عندما اختلط بالثقافات الهندية والفارسية والمصرية والعراقية، وهنا لا يفترض أن يصاب المصرى بالرعب أو الشك فى إيمانه، وهو الذى عرف الإيمان قبل آلاف السنين من نزول الديانات السماوية.