أحمد إبراهيم الشريف

باسم خندقجى وتربية الخيال

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025 10:00 ص


اقتربت منه، وقفت بجانبه، كان مشغولًا بالتوقيع لأحد القراء، بينما صف طويل من حاملى الروايات فى انتظار دورهم للحصول على توقيعه، وكنت مشغولًا بتأمله، إنه يشبه الشخصيات الروائية التى نقرأ عنها ونكتبها، يملك تجربة مكتملة، حضورًا وملامح وسيرة، كنت أتأمله بينما جملته الملهمة التى قالها لا تزال تشتعل فى رأسى "كنت أربى الخيال".

أتحدث عن المبدع الروائى الفلسطينى باسم خندقجى، الأسير المحرر الذى قضى أكثر من عشرين عامًا فى السجون الإسرائيلية، وعن الندوة المهمة التى أدارها باقتدار الصديق المبدع الدكتور طلال فيصل، والذى سعى بكل وعى أن يقرب لنا نفسية باسم خندقجى من خلال التعرف على شخصه وطريقته فى التفكير، ومن خلال تحليل شخصيات رواياته، وبالمجمل من خلال علاقته بالأدب، ويمكن القول إن باسم خندقجي، صاحب رواية "قناع بلون السماء" الفائزة بجائزة الرواية العربية (البوكر)، يملك "طريقة تفكير"، وليس هناك أفضل من إنسان يملك طريقة تفكير.

من خلال أسئلة ذكية وجهت إليه، تعرفنا على باسم خندقجى الإنسان قبل أن يكون الكاتب، رجل أعادت التجربة تشكيله، جعلته ثابتًا على مبادئه، لكنه سمح لنفسه فى الوقت نفسه بالتفكير فى "الآخر"، يرفض أن يكون هذا الآخر شبحًا غامضًا لا يرى، أو كائنًا أسطوريًا لا يُهزم، بل يحاول أن يراه كما هو: جيشًا من البشر، "لا تنينًا مجنحًا" كما قال، يأكلون ويشربون ويسيرون فى الشوارع، يخططون وينفذون، هم يملكون خططًا تقوم على محو هوية الفلسطيني، ويفعلون ذلك بطريقة علمية ومنهجية، وبالتالي، كى نهزمهم نحن، لا يكفى أن نرفع الشعارات، بل علينا أن نفكر بطريقة علمية أيضًا، أن نحافظ على هويتنا، وأن نعيد النظر فى علاقتنا بعرب 48، الذين كثيرًا ما استرحنا إلى فكرة اتهامهم بينما نحن لا نعرف حقًا ما الذى يعانونه وما الدور الذى يقومون به.

يقول باسم خندقجى إنه تعلم تقبّل الانتقاد، وأن على الواحد فينا أن ينتقد نفسه أولًا كى يكمل طريقه على صواب، يصر على أن الاحتلال هو أصل كل الأزمات التى تحدث فى فلسطين، لا يقول ذلك من باب البحث عن "شماعة" نعلق عليها أخطاءنا، بل لأنه واقع يفرض نفسه دون مبالغة، فوجود الاحتلال يعنى بالضرورة وجود عنف دائم، تشوه فى الاقتصاد، ضغوط نفسية، تفتت اجتماعي، وأجيالًا تولد فى أحضان القلق، ويؤكد أنه لن تنشأ أبدا علاقات إنسانية بين المحتل والشعب المهدد، لقد شوه الاحتلال كل شيء.

يحكى باسم أن الأسرى يعانون معاناة لا يمكن تخيلها، ومهما سمعنا أو قرأنا فلن نقترب من حجم الألم الحقيقي، يقول إنه حين وصلت روايته إلى القائمة القصيرة ثم فازت بالجائزة، لم يُستقبل هذا الخبر فى السجن بالتصفيق، بل بالتنكيل، بالعزل، بالمزيد من التضييق، وكأن انتصار الخيال فى الخارج يستفز القيد فى الداخل، لكنه، بدلًا من أن ينهار، قرر أن يضاعف جرعة الخيال، أن يواصل "تربيته" كما يربى أحدنا شجرة صغيرة فى شرفة ضيقة، يسقيها كل يوم دون أن يعرف متى ستصبح ظلًا.

فكرت طويلًا فى ما يقصده باسم خندقجى بالخيال، رأيت فيه معنى الأمل، ومعنى أن يحلم الإنسان أنه سوف يتجاوز القضبان يومًا ما، حتى لو كانت الأحكام ضده مؤبدة، الخيال هنا ليس رفاهية ولا زينة لغوية، إنه فعل بقاء، أن يرى نفسه خارج السجن وهو لا يزال داخله، أن يمشى فى الشوارع التى كتب عنها، ويصافح وجوهًا تخيل ملامحها، أن يكتب الشخصيات كما لو كانت جيرانه الذين سيلتقيهم غدًا.

الخيال عند باسم خندقجي أخذ معنى "الحياة"، حين كان يحرم من الضوء كان يفتحه على الورق، وحين كانت الأبواب تغلق أمام جسده، كان يفتح الأبواب أمام كلماته، ترحل عنه إلى قراء لا يعرفهم، لكنها تعيش بدلًا منه فى العالم، لذلك، حين رأيته يسير بالفعل بيننا، يبتسم للكاميرات، ويتحدث عن رواياته، شعرت أن الخيال قد انتصر أخيرًا، وأن ما كان يُربيه فى الزنزانة صار الآن يتجول حرًا فى قاعة مكتظة بالقراء.

فى مثل هذه اللقاءات، نكتشف أن الحديث عن "أدب السجون" لا يكفيه أن نعدد عناوين الكتب أو أسماء الجوائز، المهم هو أن نفهم كيف يحمى الأدب صاحبه من الانكسار، وكيف يمنحه "هوية إضافية" لا يستطيع السجان مصادرتها، باسم خندقجى ليس فقط أسيرًا تحرر وكتب روايات ناجحة، بل نموذج لكاتب قرر ألا يمنح سجانه السلطة على مخيلته، فظل يكتب ليذكرنا أن فلسطين ليست خبرًا فى نشرات الأخبار، بل حياة كاملة تتشكل فى قلب الزنزانة وعلى هامش العالم.

ها هو الآن يواصل "تربية الخيال" خارج الأسوار، لكن المهمة تغيرت قليلًا، لم تعد حماية الذات فقط، بل حماية المعنى، حماية صورة الفلسطينى كإنسان كامل، له الحق فى أن يحب ويخطئ ويكتب ويحلم، لا كضحية صامتة أو رقم فى تقرير سياسي، وربما يكون هذا هو الدرس الأهم الذى خرجت به وأنا أراقب صف القراء أمامه: أن كل توقيع على صفحة بيضاء هو، فى جوهره، توقيع لصالح الحياة ضد القيد، ولصالح الخيال.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب