قدر مصر أن تخلق فى خريطة جغرافية هى الأكثر اضطرابا وحروبا وتخريبا ودمارا من بين الخرائط العالمية الأخرى، وفى ظل هذه الاضطرابات والأطماع، منذ أن سطر المصرى القديم أول حروف كتاباته، ليدون قيام الملك العقرب بتأديب الأعداء الآسيويين الذين دخلوا البلاد، واستطاع أن يدحرهم، وأدرك حينها أهمية وجود جيش قوى قادر على الردع وتأديب كل من تسول له نفسه الاقتراب من حدود الوطن، أو العبث بمقدراته.
جيش مصر تختلف عقيدته عن كل جيوش الأرض، عقيدة متفردة استثنائية، ليس من المنظور العسكرى فحسب، وإنما من منظور سياسى، استراتيجى، إذ تصنفه كل مراكز الدراسات الاستراتيجية والعسكرية الغربية بأنه الضامن الحقيقى لاستقرار إقليم الشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال لا الحصر، مركز كارنيجى ومعهد واشنطن وراند، تؤكد الدراسات أن مصر تمثل وزنا استراتيجيا لا يمكن أن تخطئه العين، أو تتجاوزه المشاعر، وأن السبب الجوهرى لهذا الوزن الثقيل، وجود جيش قوى متماسك، صانع لمعادلات الردع فى المنطقة.
هذا الثقل للجيش المصرى الصانع للوزن الاستراتيجى فى منطقة ملتهبة، لم يتشكل صدفة، وإنما نتيجة تراكم تاريخى من خلال الحروب المصيرية الكثيرة التى خاضها من قادش لحطين وعين جالوت، ومرورا بانتصار أكتوبر 1973 ونهاية بالحرب الصعبة والمعقدة والمختلفة عن الحروب التقليدية، وهى الحرب ضد الإرهاب، تمكن فيها الجيش المصرى من أن يسطر انتصارا مبهرا، ويطهر البلاد بشكل عام، وسيناء على وجه الخصوص، من دنس منتخب العالم فى الإرهاب، الذين استقدمهم جماعة الخسة والانحطاط، الإخوان، فى محاولة لتأسيس جيش مواز، على غرار الحرس الثورى الإيرانى.
تشير تقارير مؤسسة «راند» الأمريكية والمهتمة بإعداد أبحاث وتقارير عسكرية، إلى أن السلام فى الشرق الأوسط لا يقوم على التفاهمات الدبلوماسية وحدها، بل على ميزان قوة واضح يجعل الأطراف تحسب خطواتها بدقة، ويأتى الجيش المصرى كرقم قوى وصعب فى معادلة التوازن الإقليمى، وأنه حائط صد قوى وفاعل لمنع انهيار هذا التوازن، بقوته وتماسكه وتنظيمه وخبراته القتالية المتجذرة فى أعماق التاريخ، وتسليحه المتطور والمتنوع، ثم تدريبه وتأهيله.
قوة الجيش المصرى الرادعة، لا تمثل توازنا إقليميا فحسب، وإنما حماية مطلقة لمصر من سيناريوهات الانزلاق الداخلى فى مستنقع الفوضى، التى انزلقت فيه دول عديدة، فقد ظل الجيش عنصر الاستقرار الأول فى فترات التحولات السياسية الكبرى، حيث تؤكد دراسة صادرة عن «Carnegie Middle East Center» أن حالة مصر فريدة لكون الجيش فيها «المؤسسة الوحيدة الحافظة على وحدتها وتماسكها واستقرارها».
عندما تأتى الشهادة من عدو يتحسب ويراقب عن كثب- رغم عدم انتظارنا لها- فإنها تكتسب أهمية، وتلقى بظلالها السياسية والاستراتيجية على أهمية دور الجيش المصرى، وأنه رقم قوى وفاعل فى معادلة قوة ترسخ الاستقرار وتصنع السلام، ولا تذهب للحروب، ولكن تبذل جهودا مضنية لمنع اندلاعها فى الإقليم، وعلى عكس كل تقاليد جيوش دول العالم، الكبرى قبل الصغرى.
مصر على مدار تاريخها الطويل لم تكن دولة يسيطر عليها توحش النفوذ العسكرى خارج حدودها، وإنما دولة منقوشة عقيدتها على ما خلفته من أثار مبهرة تشى بأنها دولة خلقها الله لإرساء الحق والعدل، وبسط نفوذ السلام والاستقرار، ومحبة للخير والنماء، وفى نفس الوقت تمتلك القدرة على منع أى تهديد يمكن أن يقترب من أمنها القومى على كل الاتجاهات الاستراتيجية، لذلك ترى كل المراكز البحثية والمؤسسات المعنية بالتقارير العسكرية، مثل «راند» أن هذه المعادلة الفريدة جعلت من مصر واحدة من الدول القليلة التى حافظت على استقرارها وسط عواصف الإقليم، ولم تسقط فى فخ الانهيارات التى ضربت دولا ذات جيوش كبيرة، لكنها غير موحدة وليست راسخة.
الدراسات التى أجرتها كلية «King’s College London» العريقة عن الجيش المصرى، تطرقت لنقطة جوهرية كاشفة، عندما تحدثت عن أن عبور الجيش المصرى الحاجز المائى والساتر الترابى الضخم «خط بارليف» فى حرب استرداد الكرامة 1973 وأن الانتصار المدوى كان نقطة تحول غيرت معادلات الصراع فى الشرق الأوسط، وأظهرت قدرة الجيش المصرى على تخطى المستحيل، أجبرت المراكز البحثية والجامعات والأكاديميات العسكرية الكبرى فى العالم على إعادة مراجعة المناهج لتدريس حرب أكتوبر باعتبارها تكتيكا حربيا إعجازيا.
الحاضر، ووفق كل الدراسات والتقارير العسكرية، يشهد أن الجيش المصرى دخل فى العقد الأخير مرحلة تحديث غير مسبوقة، خلقت جيلا جديدا من القدرات القتالية المتميزة، دعمت دبلوماسية القوة المصرية فى عدد كبير من الملفات، مثل ملف غزة والسودان وليبيا والبحر الأحمر، ويؤكد أن الجيش المصرى ليس مجرد مؤسسة عسكرية، وإنما ركيزة وجود الدولة المصرية، ومركز ثقل الإقليم، والضامن الأهم للسلام فى المنطقة.