المكرسة فى المسيحية بين الرعاية والعطاء.. خدمة بلا حدود فى بيوت البنات والأرامل والمسنين.. الكنيسة القبطية ترسخ نموذجا فريدا للمرأة الخادمة التى نذرت حياتها للعطاء دون مقابل.. وتتخلى عن الزواج والحياة الخاصة

الأربعاء، 12 نوفمبر 2025 08:00 ص
المكرسة فى المسيحية بين الرعاية والعطاء.. خدمة بلا حدود فى بيوت البنات والأرامل والمسنين.. الكنيسة القبطية ترسخ نموذجا فريدا للمرأة الخادمة التى نذرت حياتها للعطاء دون مقابل.. وتتخلى عن الزواج والحياة الخاصة المكرسات فى الكنيسة

كتب: محمد الأحمدى

فى صمتٍ عميق وابتسامةٍ دافئة، تمضى المكرسات فى دروب الحياة حاملات رسالة الخدمة والرعاية، هن نساء مصريات اخترن أن يقدّمن عمرهن كله لله وللكنيسة وللناس، لا يملكن سوى قلوب ممتلئة بالمحبة، وأيدٍ تعمل بلا توقف فى المدارس والمستشفيات وبيوت البنات والأرامل والمسنين، تتجلى صورة «المرأة المكرسة» التى تحدثت عنها لائحة المكرسات باعتبارها «شخصًا متفرغًا لخدمة الرب وخدمة الكنيسة دون زواج، تعمل فى الحقول الروحية والتعليمية والاجتماعية».

 

دعوة لا وظيفة.. ومسؤولية لا سلطة

تبدأ رحلة المكرسة بدعوة داخلية صادقة، تليها فترة اختبار يحددها الأب الأسقف للتأكد من استعدادها النفسى والروحى والعملي. تنص المادة الثانية من اللائحة على أن المكرسة تعمل فى "خدمة الكنيسة من خلال التعليم الديني، والإشراف على مدارس الأحد، ورعاية الفتيات والأطفال والمسنين، والمشاركة فى الخدمات الاجتماعية والطبية".

 

هذه ليست وظيفة تؤديها، بل دعوة تستجيب لها. فالمكرسة تُكرّس حياتها بالكامل للرب، متخلية عن فكرة الزواج والانشغال بالحياة الخاصة. ووفقًا للمادة (5) من لائحة المكرسات فى الكنيسة والتى أقرها المجمع المقدس، فإنها "تتفرغ كليًا للخدمة فى إطار الطاعة الكنسية وتحت إشراف الأب الأسقف".


إنها امرأة حرة بالحب، لكنها ملتزمة بالطاعة والنظام؛ حريتها فى العطاء، وخضوعها فى الخدمة.


العمل فى صمت.. والرعاية بلا حدود

لا تتصدر المكرسات المنابر، ولا يلتقط الإعلام صورهن، لكن آثارهن تُرى فى كل ركن يخدمّن فيه.
ففى بيوت البنات والأرامل والمسنين، يقمن بدور الأم والأخت والمربية. تذكر المادة (14) من اللائحة أن عمل المكرسة يشمل:

"الرعاية الروحية والاجتماعية والتعليمية للفتيات والنساء والمسنين، والعمل فى مؤسسات الكنيسة الخدمية كالمدارس والملاجئ والمستشفيات والمراكز الاجتماعية".

 

إنها خدمة بلا حدود، تبدأ بالرعاية وتنتهى بالاحتضان. فالمكرسة لا تقدم المساعدة المادية فقط، بل تقدم وقتها وحنانها وإيمانها. تعلّم البنات، وتواسى الأرامل، وتخدم المسنين، وتشارك المرضى فى آلامهم، كمن رأت فى وجه كل إنسان ملامح المسيح.

 

ووفقًا للمادة (15) من اللائحة، تلتزم الكنيسة برعايتهن الروحية والاجتماعية والصحية، وتوفّر لهن "بيتًا مناسبًا ومعيشة لائقة تكفل لهن الكرامة الإنسانية." أى أن الخدمة لا تكون على حساب إنسانيتهن، بل تضمن لهن الكرامة والاستقرار.

 

بيوت المكرسات.. مدارس للحب

وفى مصر عشرات البيوت التابعة للكنيسة تُعرف بـ «بيوت المكرسات»، وهى ليست أديرة مغلقة بل بيوت مفتوحة على المجتمع. تنص المادة (9) من اللائحة على أن هذه البيوت تهدف إلى:

"توفير مناخ روحى واجتماعى وصحى للمكرسات، مع تمكينهن من أداء الخدمة حسب مواهبهن فى مجالات التعليم والرعاية والخدمة الاجتماعية".

 

وهكذا تتحول تلك البيوت إلى مدارس حية للعطاء، حيث تتعاون المكرسات فى إعداد الأنشطة، وإدارة مؤسسات الخدمة، واستقبال الفتيات الراغبات فى حياة التكريس. وهى أماكن يجتمع فيها النظام الروحى مع التواضع الإنسانى، فلا أسوار تعزل، بل روح محبة تجمع.

 

الزى علامة الانتماء والرسالة

تميزت المكرسات بزى خاص حدّدته المادة (18) من اللائحة، إذ يرتدين ملابس محتشمة بسيطة تعبّر عن حياتهن الهادئة، ويُسمح بتدرجات لونية مختلفة تبعًا لدرجات التكريس.

 

الزى ليس زينة خارجية بل رمز داخلى للاتضاع، ودليل على الانتماء للكنيسة وخدمة المجتمع. هو لغة صامتة تقول: «أنا للمسيح، وللخدمة فقط».

 

الإشراف الروحي.. والعطاء المنظم

لكى تبقى الخدمة فى مسارها الصحيح، وضعت اللائحة نظام إشراف دقيقًا. فالمكرسات يخضعن لإشراف الأب الأسقف مباشرة، كما تنص المادة (10)، ويُعقد لهن اجتماع شهرى يهدف إلى "التوجيه الروحى، ومراجعة الخدمة، ودراسة الكتاب المقدس"، وفق المادة (11).

 

تلك الاجتماعات تمثل نبض الحياة الروحية للمكرسات، حيث يراجعن أنفسهن، ويتبادلن الخبرات، ويجدّدن الحماس لخدمة جديدة. إنها إدارة بالروح، لا بالأوامر.

 

بين الأسرة والمجتمع

ورغم تفرغ المكرسات الكامل، لم تغفل اللائحة الجانب الإنسانى والعائلي. فالمادة (17) تنص على أن علاقة المكرسة بأسرتها يجب أن تُبنى على "المحبة المتبادلة والاحترام المتزن"، بما لا يتعارض مع التفرغ الكامل للكنيسة.
وهكذا تُقدّم الكنيسة صورة متوازنة للمرأة المكرسة: إنسانة مرتبطة بأسرتها، لكنها منفتحة على العالم بروح الخدمة، لا بالانشغال.

 

خدمة تحمل ملامح الأمومة

المكرسة ليست فقط امرأة متبتلة، بل أمّ بلا إنجاب. أمّ تُطعم الجائع وتُعلّم الجاهل وتواسى الحزين. كل من يخدمها يشعر بأن قلبها بيت مفتوح.


ولعلّ أجمل ما يُلخص روح التكريس ما ورد فى المادة (21) من اللائحة، حيث تتعهد المكرسة أمام الله قائلة:

"أكرّس نفسى للرب يسوع المسيح لخدمته فى كنيسته المقدسة، ولأعيش بتولية كاملة، وأكرّس وقتى وطاقتى لأخواتى وإخوتى فى الإنسانية."، إنه عهد حب أبدى، تلتزم به المكرسة ليس بلسانها فقط، بل بحياتها كلها.

عطاء لا ينتهى

هكذا تضع لائحة المكرسات إطارًا قانونيًا وروحيًا لحياةٍ مكرّسة بالكامل لخدمة الإنسان. فى زمنٍ تتبدّل فيه القيم وتعلو فيه المصالح، تبقى المكرسة شاهدًا حيًا على أن العطاء يمكن أن يكون أسلوب حياة، وأن الخدمة بلا مقابل هى أسمى وجوه المحبة.

 

من بيوت البنات إلى دور المسنين، ومن مدارس الأحد إلى المستشفيات، تسير المكرسات بخطوات واثقة نحو هدف واحد: أن يجد الإنسان فى الكنيسة قلبًا يحتضنه ويدًا تخدمه.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب