فى حياة الكاهن لحظة فاصلة لا تشبه أى قرار آخر، تلك التى يمدّ فيها يده نحو الكهنوت، وهو يعلم أن طريقه لن يكون ملكه بعد اليوم، غير أن هناك يدًا أخرى توقّع قبله وتبارك الطريق بصمت، هي يد زوجته، التى تكتب بخطها على ورقة رسمية بسيطة: "أوافق على رسامة زوجى كاهنًا".
وتبدو الكلمات عادية، لكنها فى معناها الأعمق بداية عهدٍ من المشاركة والتجرّد والعزلة المقدسة، فـ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وفقًا للائحة تنظيم خدمة الكهنة الصادرة عام 2013، لا تسمح برسامة كاهن متزوج إلا بعد تقديم موافقة مكتوبة من زوجته تؤكد فيها أنها تفهم طبيعة الحياة الكهنوتية وتقبل متطلباتها الروحية والاجتماعية، فى ما يشبه عهدًا طقسيًا أكثر منه إجراءً إداريًا، فهى لحظة توقيع على حياة جديدة، تُصبح فيها الزوجة شريكة لا فى البيت فقط، بل في الخدمة نفسها، بعمرٍ كاملٍ من الصلاة والاحتمال.
تسونى.. اللقب الذي يحمل معنى الشراكة
وتُدرك الكنيسة أن الاستقرار الأسري ليس ترفًا للكاهن، بل شرطٌ لاستقامة خدمته، لذلك تُعامل الزوجة بوصفها جزءًا من النذر الكهنوتي.
فالمرأة التي توافق على رسامة زوجها تدخل بدورها في طريق روحي مختلف، يقتضي منسكًا في الملبس، وضبطًا في السلوك، وهدوءًا في الحضور الاجتماعي.
وتُعرف زوجة الكاهن فى اللغة القبطية باسم "تسونى"، أى السيدة أو القرينة الروحية، وهو لقب يحمل الاحترام والرمزية، دون أن يمنحها صفة كهنوتية أو مكانة رسمية، لكنها تبقى دائمًا في مركز دائرة العطاء، حاضرة في كل نشاط خيري أو اجتماعي داخل الكنيسة، تشارك في تعليم البنات، وتنظيم لقاءات السيدات، وتقديم الدعم النفسي لزوجها حين يرهقه الطريق الطويل بين الاعترافات والصلوات والزيارات.
الأربعون يومًا.. عزلة تُنضج الدعوة
الاختبار الأول لزوجة الكاهن لا يبدأ بعد الرسامة بوقتٍ طويل، بل فورها، حين يدخل زوجها مرحلة الخلوة الأربعينية داخل أحد الأديرة، وهي فترة تمتد أربعين يومًا من العزلة والعبادة لا يُسمح له خلالها برؤية أسرته.
وتنص لائحة تنظيم خدمة الكهنوت فى مادتها السادسة على أن هذه الفترة واجبة لتقديس البداية، حتى يكون الكاهن مهيّأً للخدمة بقلب خالٍ من الارتباك، غير أن هذه الخلوة، فى وجهها الإنساني، امتحان صعب للزوجة التى تجد نفسها فجأة وحيدةً أمام مسؤوليات البيت والأبناء، تتعلم الصبر والصمت والانتظار، وكثيرات منهن يروين أن تلك الأربعين يومًا تُغيّر حياتهن إلى الأبد، إذ يتحول الحنين إلى صلاة، والقلق إلى يقين، وحين يعود الزوج من ديره، تعود معه هي إلى حياة جديدة، لا تشبه ما قبلها.
تحديات الواقع.. حين تكون الخدمة على حساب البيت
وتبدأ تسونى بعد عودة الأب الكاهن من الدير رحلة مختلفة من التحدى اليومى، فالكاهن في الكنيسة لا يملك وقته، فهو حاضر في كل لحظة من حياة شعبه: يعمد أطفالهم، ويزور مرضاهم، ويصلّي على موتاهم، ويستمع إلى همومهم حتى منتصف الليل.
وأما زوجته، فهي التي توازن هذا الغياب بالحضور الدائم في البيت، وتحوّل الانتظار إلى خدمة صامتة، وكم من مرة احتفلت وحدها بعيد ميلاد أحد الأبناء أو واجهت أزمة منزلية دون أن تفصح، لأن زوجها كان فى جنازة أو قداس أو اجتماع روحى، ومع ذلك، تعرف أن الخدمة لا تعرف مواعيد، وأن الرجل الذي تحبه صار منذ لحظة الرسامة ملكًا للكنيسة كلها.
تحت المجهر.. قدوة وسلوك محسوب
ومع مرور الوقت، تتعلم "تسونى" أن تكون مرآة المجتمع للكنيسة، ووجه الكنيسة للناس، فحياتها تحت الضوء، وسلوكها دائمًا تحت المجهر، ولا يحق لها الغضب علنًا أو الانفعال المفرط، فكل كلمة محسوبة عليها، وكل تصرف قد يُقرأ كإشارة من "بيت أبونا"، فهى تمشى على خيطٍ دقيقٍ من التوازن بين إنسانيتها العادية وصورتها المثالية. ومع ذلك، حين تسألها عن سرّ صمودها، تقول ببساطة: "لأننا اخترنا أن نعيش لله معًا"

إقرار زوجة الكاهن
خدمة بلا لافتة.. وبطولة فى الظل
ورغم الصعوبات، لا تخلو حياة زوجة الكاهن من الفرح، فهناك بهجة خفية في رؤيتها لثمار الخدمة: فتيات تغيرت حياتهن بكلمةٍ منها، أو أسرٌ فقيرة وجدت فى بيتها الدفء والمساعدة.
وكأن الكنيسة، رغم طقوسها الصارمة، تعوّضها بالحب الشعبي والاحترام الذى يحيطها به أبناء الرعية. فكل طفلٍ يناديها "ماما تسونى"، وكل امرأة تلجأ إليها طلبًا للنصيحة، يجعلها تشعر أن دورها يتجاوز الجدران، وأن حياتها جزء من كهنوتٍ ممتد في تفاصيل الناس.
القداسة التى لا تُرى
وُضعت لائحة تنظيم خدمة الكهنوت لتضع النظام فى حياة الرعاة، لكنها في عمقها تكرّس صورة جميلة للمرأة التي اختارت أن تكون ظلًا للقداسة، فزوجة الكاهن ليست في الظل لأنها أقل شأنًا، بل لأنها اختارت أن تُنير من الخلف، وأن تحمل في صمتها نور البيت الكهنوتي كله.
وهي التي وقّعت على ورقة صغيرة في البداية، لكنها في الحقيقة وقّعت على نذر حياة. لا تُذكر أسماؤها في القداسات، ولا تُرفع صورها على جدران الكنائس، لكنها الحارسة الدائمة للبيت والخدمة والسكينة.
وفى عالمٍ مزدحم بالصوت، تبقى هى الصوت الهادئ الذى يذكّر الكاهن أن وراء المذبح قلبًا ينتظر ويصلى ويمنح بلا مقابل، إنها شريكة الخدمة، التى جعلت من الصبر صلاة، ومن الصمت رسالة، ومن حياتها كلها قربانًا من أجل نعمةٍ تُدعى الكهنوت.

لائحة الكهنوت