لن يبرأ الجرح ولو انطفأت حرارته؛ فما بالك أنه ما زال ساخنا بحالته الأولى، ويتفجّر منه النزيف هادرا دون انقطاع حتى الآن.
لا حدَّ للأسى على غزة وأهلها، ولا شىء ينافس دموع البكائين القريبين والبعداء؛ إلا دماء النازفين فى قعر المأساة، ومن ضُيّع عليهم الأمس واليوم، ولا يعرفون طريقا آمنة للمستقبل، وأقصى أمانيهم أن تطفو رؤوسهم فوق الموج الخانق، من دون أن تُقطف أو تطوحها القذائف بعيدا عن أجسادهم الهزيلة.
أنجز الاحتلال ما يفوق أحلام حكومته الدموية المتطرفة، وبدد الحماسيون رصيدهم وأرصدة المنكوبين من ورائهم. ولا سبيل للحركة إلى الأمام، ولا العودة إلى الماضى الذى لم يكن مثاليا أو مُقنعًا.
ازداد الأبرياء براءة وانكسارا، وتيقن الجناة من كُلفة الجريمة فأوغلوا فيها، وجردة الحساب تُفصّل الوقائع لحظة بلحظة، وتفرز الضحية من المتهم؛ لكنها لا تردع الأول ولا تستوفى حقوق الثانى، بل لا تمنحه متسعا للحزن والجنازات اللائقة.
فقدت الأرقام وهجها ومعانيها، وتخطّت الفاجعة نطاق العد والحصر؛ حتى تساوى فيها القليل بالكثير. وكان الطبيعى أن ترتج الأرض وتميد تحت الأقدام لمقتل طفل أو عجوز، لكن الشاشات وبرامج الأخبار طبّعت علاقتها بالموت، وحولت الحياة الإنسانية إلى نعى بارد فى جملة محايدة.
والمؤكد أن المخلوعين من طينة القطاع قهرا، لم يعد يعنيهم أن تكون صالحة لإنبات غيرهم، ولا ما إذا كانت وعود الدولة تزدهر أم تذبل. فى المحارق الكبرى ينجو الموتى وحدهم، وبموتهم يفقد الأحياء ثقتهم فى كشوف ثبت الأسماء؛ فلعلها مؤقتة وزائلة كما جرى مع أسلافهم الطيبين.
لم يكن أشد الناس تشائما يتوقع أن تستمر الحرب كل تلك الليالى والأيام. وأعترف أننى كنت متفائلا لدرجة السذاجة القُح، عندما وقفت بين الزملاء فى صبيحة السابع من أكتوبر حزينا، بينما تطفر الفرحة من وجوههم، وكنت أرى وقتها أن ما فعله مقاتلو القسام لن ينتهى بأقل من أضعاف مضاعفة لغنائمهم البشرية، وعدة أشهر من الاستباحة المفرطة تحت عنوان الثأر وحق الدفاع عن النفس.
مرّ عامان كاملان، وكل ما كان إيجابيا على سبيل التوهم والانخداع بالرصاصة الافتتاحية، ارتد وبالا على الجميع، وما استشرفته بسوء الخيال تخطاه الواقع الردىء؛ حتى تضاءلت قيمة الكلام عن القضية العادلة وحقوقها المشروعة، وتقدّمت أولوية الإنقاذ ووقف المذبحة على غيرها من الأهداف والاعتبارات.
كما لم يعد مفيدا الجدل فى البواعث، أو البحث عن مُدانٍ بالنزق والمقامرة المستخفة بالبشر والحجر؛ إلا من زاوية استهجان المكابرة، وما تتسبب به من تغييب فضيلة المراجعة، ثم تحريك المعنيين بها صوب الاعتراف والاعتذار والتصويب.
أقر بأننى لم أعد أتوقف أمام مواكب الشهداء؛ والقلب فى مكانه ولم أفقد حساسيتى الإنسانية بعد. لكن خفايا الأزمة أعمق وأشد وطأة من ظاهرها، والفخ الأكبر ليس فى تكبيد الفلسطينيين أعباء كاسرة من أرواحهم ومعاشهم، بل فى اختزالهم تحت لافتة الشفقة، وتحويل موضوع النزاع من الحقوق إلى الإغاثة، ومن كونه قضية سياسية إلى مسألة إنسانية.
فكأن السلاح الذى يناضل فى سبيل الوطن؛ تسبب فى تعريته من إقليمه وحكومته معنويا، وأبقى شعبه عاريا بين المحسنين وذوى الأغراض الدنيئة.
مشكلة الطوفان أنه لم يُعرض على البحث والفحص والتقويم فى بيئته حتى الآن، ويُراد للرازحين فى قيوده أن يتجاوزوه، من دون معرفة عميقة به، أو وقوف دقيق على حسناته ومساوئه. ما يُبقى منازعة الفصائل مفتوحة مع محيطها اللصيق؛ ولو حسمها الاحتلال من جانبه بالبارود والنار.
إذ لا يكفى أن تُسلّم حماس ضمنيا أو عمليا بالهزيمة أمام الاحتلال، أو تنزل على أشراطه المجحفة للتهدئة؛ طالما لم تقتنع بمسؤوليتها المباشرة أمام الساحة الفلسطينية، وبحق بقية الشركاء فى استعادة زمام أمورهم، والبحث عن مسرب للنجاة خارج ما تقترحه الحركة، وبعيدا من أية مناورات تدبرها للاحتيال على الخارج، أو الالتفاف على الداخل.
عندما حاقت الهزيمة بمصر فى يونيو 1967، أخذتها الصدمة إلى الإنكار قليلا؛ ثم استعادت توازنها علنا بقرار عبد الناصر أن يتنحى عن منصبه.
صحيح أنه ظل على سدة الحكم؛ إنما كان ذلك بعد إعلان جاهزيته لتحمل مسؤوليته التاريخية منفردا؛ ما جعل التظاهرات اللاحقة فعلا نضاليا يتمرد على الانكسار ولا ينفيه، ويُؤسس لمسار لا يدّعى فيه المهزوم بطولة أو انتصارا؛ إنما يتلمّس الأسباب التى قادته إلى الهاوية أولا، ثم يقترح البدائل الموجبة للخروج منها بأفضل الطرق الممكنة.
شجاعة الاعتراف عبرت عن نفسها مبكرا فى رأس العش، ثم إغراق المدمرة إيلات، ومن بعدها حرب الاستنزاف الطويلة المُطهّرة. وحتى قبول مبادرة روجرز كان عن وعى بالتوازنات، ولرغبة فى التقاط الأنفاس واستكمال الاستعدادات، أكان ببناء حائط الصواريخ أو تأهيل منظومة التسليح وقدرات التدريب وإعداد العناصر المقاتلة.
والقياس مع الفارق طبعا بين بلد كبير وقطاع ضيق، بين حكومة وطنية وميليشيا أصولية؛ لكن الفكرة نفسها تظل صائبة دوما، ويقع التفاوت فى الأحجام والآجال الزمنية.
لا تُعرّف الهزيمة إلا بكونها هزيمة، وأية تسمية بديلة لا تخدم تطلعات الصمود كما يتصور البعض، ولا تستبقى النزر القليل من الاتزان النفسى الذى لا فائدة له أصلا؛ إذ لو بُنى على أسس خائرة وغير مستقرة سيكون اهتزازا مُقنّعا وصلابة مُدّعاة.
وفى كل الاشتباكات دون استثناء، يتقدم إتقان الخسارة على إحسان الربح، أى أن تعرف كيف تتلقى الضربة وتحتوى آثارها؛ لأن الاقتدار يحمى نفسه، والمتفوق لا تؤلمه بعوضة على الوجه، بينما قد تكون قاتلة لجريح مفتوح الشرايين.
ولدينا نموذج عملى يتقدم على حماس ويتأخر فى الآن ذاته. فحزب الله له سابقة «نصر إلهى» فى لبنان، لم تعرفه الحركة أو تذُق حلاوة خطبه ودعاياته. وإذ قرأ حسن نصر الله إشارة التحرير فى العام 2000 على وجه خاطئ؛ فقد استُدرج بقراءته إلى حرب تندم عليها بعد ست سنوات فقط، ثم كرّر الخطيئة بحذافيرها.
بمعنى أنه اعتبر الهزيمة نصرا؛ فتراجع أمام العدو وتقدم على حساب الشريك، موظّفا فائض قوته تجاه البيئة الوطنية، مدفوعا بإملاءات إيرانية حلّت بدلا من وصاية سوريا الأسدية، وكرّت السبحة بوتيرة متباطئة إلى موعد حرب الإسناد والمشاغلة قبل سنتين، وقد خرج منها مكسورا وراضخا لاتفاق بائس؛ لكنه يُصر على توظيف سلاحه المعطل فى جبهة القتال، لترويض منافسيه الغاضبين فى بيئة السياسة.
نشأ الحزب فى فضاء المقاومة أصلا، ولغاية معلنة تنتهى بتحرير الأرض. وعندما رحل الصهاينة عن الجنوب تشبّث بالنقاط العالقة، ومزارع شبعا التى أصر حليفه السورى على إلحاقها بالشام لا لبنان. فكأنه اتّخذ من الاحتلال ذريعة للبقاء بكامل عديده وعدّته؛ كيفما تريد طهران وتقضى مصالحها، مُتغافلا عن أنه يوفر الذريعة للخصم الأشد قوة وتفوقا.
وقد وقعت الرسالة فى صندوقه بعلم الوصول، ومكتوبة بدماء أمينه العام وخليفته؛ لكنه يضع التزاماته تجاه الممانعة فوق الوطن، ويخلص للأيديولوجيا أكثر من ميثاقية الطائف؛ فيُعلّق حبل السيولة السياسية والأمنية على الجرّار، من دون أن يربح قتالا، أو يعفى الدولة من تبعات الإخفاق تفاوضا.
وُلِد ولادة عاطفية مشروعة، وتعيّش عليها؛ لكنه تحول لاحقا إلى عبء على الأم وبقية الأشقاء. وكذلك حماس الطالعة من أجواء الانتفاضة الأولى، وقد استثمرت فائض الغضب والتعبئة الشعبية لتجذر حضورها فى مشهد النضال الوطنى، ثم أعدت مخططها للانقلاب على المعادلة القائمة واحتكار واجهة الصورة.
منعتها كاريزما عرفات مؤقتا من اللمعان المفرط؛ لكنها لم تُقصّر فى التجاوب مع اليمين المتطرف على الجانب الآخر، لإفساد مسار أوسلو أولا، ثم إذكاء الأصولية الجارحة وإغنائها بالتغذية المتبادلة من الناحيتين، وصولا إلى الانقلاب على السلطة وانتزاع حماس من جغرافيا فلسطينية مهشمة ومتشظية أصلا؛ فكأنها بالانفضاض عن الضفة الغربية كانت تولّى ظهرها للدولة أصلا، وبالتبعية لقضيتها فى وجهها المجرد من التلوين والاستتباع.
وأول سطر تصحيحى إنما يُفتَتح وجوبا بإعادة الأمور إلى نصابها، ومن أهون نقطة قد لا يُعيرها البعض اهتماما. إنه طوفان السنوار والحماسيين وليس طوفان الأقصى، لأن الأخير منذ الانقلاب أصبح موضوعا للاحتجاج والمزايدة، ولم يعد ثابتا وطنيا يكتسب رمزيته بمعزل عن الرؤية الاختزالية للمسألة فى وجهها الدينى فحسب.
والقرينة أنه يحل بديلا عن القدس الشرقية، أو القدس كلها، ولا تُذكر بجانبه كنيسة المهد أو القيامة، ولا أية تفصيلة تتجرّد لوجه الوطن والنضال من محمولها العقائدى، وليس هذا لرغبة فى حشد المسلمين من أرجاء الأرض وتجييشهم عاطفيا؛ بل لإعادة تركيب معادلة الجدارة والاستحقاق منعطف بديل. وإذا كانت فلسطين وقفية إسلامية، والقضية مسجد ومنبر؛ فأهل الدين أولى بها جميعا من سواهم.
يُضاف لهذا أن القرار كان فرديا خالصا، وقد تبرأت منه إيران نفسها، وقال قادة الحركة كثيرا إنهم فوجئوا به مع الآخرين عبر قنوات الأخبار. ما يعنى أنه خرج عاريا من الإجماع، وبعيدا عن التنسيق فى التنفيذ أو إدارة التداعيات. ما يجعله لحظة حماسية خالصة لأغراض فوق فلسطينية غالبا، ويجعل الهزيمة الحالية من نصيب التنظيم ورُعاته ومموليه فى الممانعة وخارجها؛ ولو سدد المدنيون العُزّل أغلب أثمانه أو كلها.
والفرز هنا لن يغير الوقائع، ولن يُعيد الراحلين قطعا؛ لكنه على الأقل يُثبّت موقفا مبدئيا بأن القضية الوطنية غير مسؤولة عن نزق الميليشيا، ويجب ألا تُعاقَب عليه، مع تسريع إيقاع الاستيعاب والتعافى ومغادرة أفق المأساة، وبما يسمح للمتعقلين والجاهزين لتلك اللحظة الاستثنائية بأن ينفضوا غبار المزاعم والدعايات، ويتوصلوا إلى الوصفة الأسلم لاستدراك تردّيهم على المنحدر، وإعادة تفعيل المقاومة من منظور عملانى منشّط، وبعد التيقن من أن ما ساقه الحماسيون لم يكن يُعبر عن أية مقاربة ناضجة، وفى السلاح والسياسة على السواء.
الاجتزاء صنعة صهيونية أصلا. هكذا افتُتح مسار الدولة الملفقة من بدايته، سواء بقبول قرار التقسيم على نية ابتلاع حصة الشريك، أو اختزال القطاع حاليا فى صورة حماس وحدها؛ ليكون العدوان مشروعا وجرائمه مجرد آثار جانبية.
وهو ما أكّد عليه خالد مشعل بسذاجته المعتادة، عندما قال إن الدمار والقتلى خسائر تكتيكية، مكتفيا بالحركة عن البلد والناس وقوّة المظلمة الثابتة. ومثله أيضا من يقولون إن التسوية تمنح المحتل بالحوار ما لم يُحصّله بالنار؛ فكأن تخريب الحياة وتيئيس الأحياء عرض عابر ولا قيمة له أو أثر.
والمضاد لتلك الحيلة أن تُطرح المسألة حزمة واحدة، ويتقلص حيز الفصائل إلى نسبتهم الطبيعية، وفى الخطوط الخلفية وراء الشعب والقيادة الشرعية. والقصد ليس إزاحة حماس المتوقعة بموجب خطة ترامب؛ إنما أن يُعاد النظر فى الأيديولوجيا الأصولية نفسها، وأن يتكيّف قادتها مع حقيقة أن الزمن تبدّل عن ماضيهم الخيالى المُريب، وأنهم لن يتحركوا بالقضية شبرا للأمام، فيما يسيرون أصلا عكس مسار التاريخ.
الجريمة مُعلّقة على كاهل إسرائيل، ويستميت فريق من نُخبة الصهاينة فى تعليقها برقبة نتنياهو. والأخير سفّاح نازى، ويتقصّد أهدافًا شخصية من الحرب دون شكّ، لكنه ينوب عن بلدٍ مفتون بالعنف ومُبرمَج عليه، واعتاد اقترافه على فواصل مُتقطّعة، ومع كل حكوماتها بتنوّع أطيافها السياسية.
وغرض الاجتزاء يمتد مُجدّدًا إلى التضليل، وإحالة التهمة إلى شخص واحد؛ لإبراء الدولة من العبء وتهيئتها لإعادة تطبيع علاقاتها مع المُحيط والخارج.
وسابق الخبرة يقطع بظرفيّة الغضب، وقد شُوهِد سابقًا فى انتفاضة الأقصى وغيرها من وقائع البطش والترويع وكَىّ الوعى.
ستتوقف المقتلة؛ لينفض الحماسيّون غبارها كأنهم ما فعلوا شيئًا، ويعود العالم إلى سُباته القديم، وتتقارب تل أبيب مع بقيّة العواصم النافرة مؤقتا، وتستدرج غيرها من المنطقة وخارجها تحت راية الاتفاقات الإبراهيمية، أو ضمن رؤية تتوخّى تسييد السلام الاقتصادى وترقيته فوق السياسة ومُنغّصاتها.
ويجب أن يتحسّس الفلسطينيون للتركيب المُعقّد بكل مكوّناته، ويتلمّسوا طريقًا للتعاطى مع التطوّرات المُتوقّعة ما بعد الهُدنة العارضة أو الوقف الدائم، وأعباء «اليوم التالى» بين عدوٍّ ما يزال نَهِمًا، وفصائل ستطمع فى استخلاص ما انتُزع منها على حساب ضحاياها، فى استمرار لمتوالية القهر المحفورة فى لحم غزّة والغزّيين.
مفارقة عجيبة أن يكون الموت مُطوّقًا للجميع؛ ثم تجد عناصر القسّام وأجهزة حماس الأمنية يُطاردون العشائر، ولا يفوتون يومًا دون قتيل أو أكثر؛ كأن هدايا الاحتلال لا تكفيهم أو تُشبع شهوتهم للدم، وكأنهم لا يُوطّدون نفوسهم على الرحيل وإعفاء القطاع من أثقالهم؛ بل يُرتّبون لصيغة مُحرّفة يتخفّون فيها عن ظاهر الصورة، ويقبضون على أحشائها من طرفٍ خفىٍّ.
درس الطوفان الأهم أنه لا بديل عن الدولة الوطنية، وعن تحقيقها وعيا واعتقادا حتى لو تعذر تطبيقها على الأرض.
بإمكان إسرائيل أن تحاصر وتقتل وتُقطّع الجغرافيا والديموغرافيا بالاحتلال والمستوطنات والحواجز؛ لكنها لا تستطيع أن تمس إيمان الفرد بفلسطين الفكرة والمشروع، وبأولوية الوفاق والتلاقى تحت مظلة جامعة، وأن الاعتبار لمن يخدم المشترك الوطنى ولا يزيده ضعفا ورثاثة؛ ولو كان المقابل أن ينزل عن نفع خاص، لا أن ينقطع عن أجندات خارجية توظّفه وقضيته لأهداف مضادة للقومية الفلسطينية، بقدر ما تكره تمثّلاتها فى ساحات أخرى، وخرّبت أربع دول أو يزيد بتلك الكراهة الطافحة قولا وفعلا.
وقف الحرب الآن لن يُعيد لغزّة ما فقدته، ولن يُبدّل الحال من الهزيمة إلى الانتصار. الفارق كبير بين انتشال الغريق أو وضعه على منصّة التتويج؛ إنما يجب أن يعود الفلسطينيون إلى ما قبل الانقسام، وإن تعذّر فليكن لِمَا قبل حماس أصلا؛ لا بطَرحها المستحيل من المُعادلة باعتبارها أيديولوجيا قبل أن تكون تنظيمًا؛ إنما باحتواء ما تبقّى من مرافقها، وتحفيز الممسكين بزمامها إلى إعادة الهيكلة والتأهيل، ومنحهم تسامحًا مشروطًا بالتوبة عن مُغامرات الماضى، وإخلاء سبيل الحاضر من الجدل والاعتراضات والنوايا المضمرة.
من لم يعتبر بعامين من الهزائم المتتالية؛ فلا أمل فيه ولو امتدّت النكبة الراهنة عقودًا. والحديث عن النصر لا يُحمَل إلا على الوقاحة والتبجّح فى أحسن التواصيف، وتجيير الهبّة الدولية لصالح السنوار وطوفانه، على حساب دم الأبرياء وتضحياتهم، يُلامس الابتذال الرخيص، ويتدثّر بالأيديولوجيا والأهواء دون الضمير وفوق العقل.
ارتدّت القضية للوراء عقودًا، وصار حل الدولتين أبعد من أى وقت مضى؛ بل صيغة الحُكم الذاتى الحالية مُهدّدة فى دعائمها الهشّة. خسرت فلسطين سلاحها، وأضعفت ساستها بيد حماس قبل أن يُضعفهم العدوّ. أُضيف لعدّاد الضحايا ما لا يقل عن القائمة الطويلة منذ النكبة الأولى، وصارت الأغلبية بين مُحطّم نفسيًّا أو يائس وجاهز للرحيل اختيارًا لو أتيحت الظروف.
الطوفان عرّض الفلسطينيين لامتحان ثقيل لم يكونوا جاهزين له؛ أو بالأحرى كانوا فى غنى عنه زمانًا ومكانًا. والمسارات المُقبلة اضطرارية فى أغلبها؛ من دون أى هامش للاختيار. ولا وجه للتعلّل بالاحتلال لأنه ليس طارئًا أو غريبًا عن الفصائل، والتوحش وانتهاز الفرص أو اصطناعها مكوّنات أصيلة فى حمضه النووى؛ ما يجعل الاستفزاز أو التصادم معه عملاً انتحاريًّا من خارج المنطق والخيال الرشيد.
وسواء تيسّرت الصفقة أو تعثّرت؛ فلا قيمة لها من دون مُكاشفة ذاتية بأشد الصور قسوة وتصريحًا، وإلى الآن لم يعترف المُخطئ بخطيئته؛ ما يعنى أنه ينكرها أو لا يراها، كما لا يستعد لسداد المقابل عنها لبيئته، بينما يتأهب لدفع ما يطلبه العدو. هُزَم الحماسيّون بالأيديولوجيا وامتداداتها المشوّهة، وعندما أطلّ السنوار برأسه من فوّهة النفق؛ كان يُلوّح بالوداع قبل شهور من موعده. وورثته اليوم لا يُفوّتون حرفًا من وصاياه؛ وإن لم يُقلعوا عن اقتفاء أثره الآن، وعلى وجه الاستعجال؛ فقد لا يجدون فرصة للندم والاعتذار غدا؛ أما التصويب والاعتدال فليسا من عادة الأُصوليين أصلاً!