تطورات هامة شهدتها القضية الفلسطينية خلال الأسابيع الماضية مع اكتمال المرحلة الأولى من مخرجات التحرك المصري والعربي الداعم لوقف العدوان وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي والتي مثلت منعطفا حاسما في مسار الصراع، حيث نجحت الجهود المصرية، بالتنسيق مع عدد من القوى العربية والإقليمية، في تحقيق إنجازات ملموسة على الأرض تمثلت في تثبيت الهدوء الميداني وتهيئة الأجواء السياسية لبدء مسار جديد نحو التسوية الشاملة والعادلة التي تعيد للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة وترسخ مقومات استقرار المنطقة بأكملها. لقد أظهرت نتائج هذه المرحلة أن التحرك المصري لم يكن مجرد دور وساطة تقليدي، بل قيادة سياسية فاعلة استطاعت أن تؤسس لمرحلة أولى ناجحة من التفاهمات، شملت وقفا نسبيا لإطلاق النار، وتبادلا محدودا للأسرى والجثامين، وفتح قنوات حوار موازية بين الفصائل الفلسطينية، ما أعاد الثقة إلى إمكانية تحقيق توافق وطني فلسطيني بعد سنوات من الجمود والانقسام و هذه النتائج لا يمكن النظر إليها إلا باعتبارها تتويجا لدور مصر التاريخي الثابت تجاه القضية الفلسطينية، والذي يقوم على الوساطة النزيهة والحفاظ على وحدة الصف العربي ومنع تمدد دائرة الصراع في المنطقة.
التحرك المصري اتسم بقدر عال من الحنكة السياسية والمسؤولية القومية، فمصر لم تنجر إلا إلى مصلحة الشعب الفلسطيني، ولم تسع إلا إلى الحفاظ على استقراره ووحدة قراره الوطني، وقد حظي هذا الدور بإشادات دولية واسعة من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدد من العواصم الكبرى، التي أكدت أن القاهرة ما زالت تمثل الركيزة الأساسية للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وأن نجاحها في إدارة المرحلة الأولى من المخرجات الفلسطينية يمثل خطوة مهمة نحو إطلاق عملية سلام حقيقية تستند إلى المرجعيات الدولية وقرارات الشرعية. وفي هذا الإطار، جاءت حالة الإجماع الفلسطيني الأخيرة على ضرورة الحفاظ على الهدوء، وعدم منح إسرائيل أي ذريعة للعودة إلى الحرب، لتعكس درجة عالية من الوعي السياسي والمسؤولية الوطنية بين الفصائل فإسرائيل، التي لطالما سعت إلى استغلال أي تصعيد لإعادة فرض واقع ميداني جديد، تواجه اليوم جبهة فلسطينية أكثر تماسكا، تدرك أهمية الالتزام بخطوات مدروسة للحفاظ على المكاسب التي تحققت حتى الآن، وإفساح المجال أمام الجهود الدبلوماسية والإنسانية لاستكمال المراحل التالية من خطة التهدئة وإعادة الإعمار.
هذا التوافق لم يكن صدفة، بل هو نتاج مباشر للجهد المصري المستمر في توحيد الموقف الفلسطيني، وتشجيع الأطراف على الحوار بدلا من المواجهة، وعلى بناء الثقة المتبادلة كأساس لأي اتفاق مستقبلي ويحسب للقاهرة أنها استطاعت أن تجمع في محادثاتها بين ممثلين عن السلطة الفلسطينية وحركة حماس وباقي الفصائل، في مشهد لم يتكرر منذ سنوات طويلة، ما يؤكد أن هناك تحولا نوعيا في المسار السياسي الفلسطيني الداخلي نحو إدراك أن وحدة الصف هي السلاح الأقوى في مواجهة الاحتلال. ولا شك أن إنهاء الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس، وبين الضفة الغربية وقطاع غزة، أصبح الآن ضرورة وطنية كبرى وليس مجرد مطلب سياسي والتجزئة التي عاشها الكيان الفلسطيني طوال الأعوام الماضية أضعفت الموقف التفاوضي وأضرت بالمصالح العليا للشعب، وأعطت إسرائيل مبررا لتجاهل كل مساعي التسوية لذلك فإن المرحلة المقبلة تتطلب إرادة صلبة من القيادات الفلسطينية كافة، للبدء في خطوات عملية لتوحيد المؤسسات، ودمج الأجهزة، وتشكيل حكومة توافق وطني تعمل على الأرض بروح واحدة تمهد لإجراء الانتخابات الشاملة في الضفة وغزة والقدس.
الانقسام لم يعد مقبولا لا من الداخل الفلسطيني ولا من المجتمع الدولي والعالم اليوم يتعامل مع وحدة القرار الفلسطيني كشرط أساسي لأي دعم سياسي أو اقتصادي أو إنساني للقضية، وإسرائيل تدرك تماما أن استعادة هذه الوحدة ستعيد صياغة المعادلة برمتها، لأن شعبا موحدا خلف قيادة واحدة سيكون أكثر قدرة على انتزاع حقوقه المشروعة وفق قرارات الأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية.
كما أن تحقيق هذا الهدف سيعزز قدرة الفصائل على التفاوض من موقع قوة، ويمنح الفلسطينيين صوتا واحدا في المحافل الدولية، خاصة في ظل الدعم العربي والإقليمي المتنامي للمسار السياسي الذي ترعاه مصر وإحياء القضية الفلسطينية لا يمكن أن يتم عبر الانقسام، بل من خلال بناء كيان وطني متماسك يمثل كل أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، ويعيد إلى العالم صورة النضال الفلسطيني الموحد في مواجهة سياسات الاحتلال. إن المرحلة الأولى من المخرجات أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن التحرك المصري لم يكن تحركا آنيا أو مصلحيا، بل هو جزء من رؤية استراتيجية شاملة تهدف إلى حماية الأمن القومي العربي، ومنع تفاقم الأزمات الإقليمية، ودعم استقرار الشعوب وقد نجحت القاهرة في إدارة هذا الملف الشائك بمزيج من الحكمة والمرونة والقدرة على التوازن بين مختلف القوى الإقليمية والدولية، دون التفريط في الثوابت أو تجاوز حدود السيادة الفلسطينية.
وفي الختام، يمكن القول إن ما تحقق حتى الآن يمثل إنجازا سياسيا ودبلوماسيا كبيرا يحسب للدولة المصرية و للقيادة التي أدارت هذا الملف بحكمة واقتدار غير أن النجاح الحقيقي سيكتمل فقط حين تتحقق الوحدة الوطنية الفلسطينية، ويتم تثبيت ركائز الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية وهذا هو الطريق الوحيد لضمان سلام دائم، يضمن للفلسطينيين حقهم المشروع في الحياة والحرية، ويعيد للمنطقة استقرارها المفقود، ويبرهن مجددا على أن مصر كانت وستظل الضامن الأول والعنوان الأبرز لكل مساع عربية صادقة نحو السلام العادل والشامل.