ـ غرفة التجارة والصناعة الفلسطينية: ارتفع مؤشر أسعار السلع الاستهلاكية إلى 1290%
حرمان وضياع حقوق.. هكذا يمكن توصيف حرب غزة والعدوان على أهلها، فلم تكن مجرد اعتداء بالطائرات والأسلحة الثقيلة فحسب، وإنما كانت تحمل فى طياتها رغبة فى إبادة هذا الشعب الأعزل ومحو هويته، وهو ما يتضح من استهداف الكيان الصهيونى لكل المنشآت فى غزة والمرافق الحيوية بها، وتحويلها إلى حطام وركام يكسوه اللون الرمادى الحزين.
لم تقتصر هذه الحرب على تدمير المنشآت فقط، بل امتد أثرها إلى حرمان الأهالى من أبسط حقوقهم الإنسانية، وهو تسجيل مواليدهم، فبينما يُعد المولود مصدر فرحة وسعادة لأسرته فى كل مكان، إلا أنه لأهل غزة وفلسطين يحمل دلالة أعمق، إذ يمثل استمرار الحياة رغم الحصار، وصمودًا فى وجه القسوة والدمار.
لكن الاحتلال الإسرائيلى أبى إلا أن ينتزع حتى هذه البسمة الصغيرة من وجوه أطفال غزة، فمنعهم من الحصول على أبسط حقوقهم المدنية وهو تسجيل مواليدهم، وهو الإجراء الذى ينعكس لاحقًا بشكل سلبى خطير على حياة هؤلاء الأطفال، حيث يُحرمون من العديد من الحقوق مثل التطعيمات، والقيد الدراسى، والسفر مع ذويهم، والحصول على المساعدات الإنسانية، التى تُصرف بناءً على وجود أوراق ثبوتية رسمية.
بدون اسم
كانت زهيرة الحاج تحلم، منذ صغرها، بتكوين أسرة بعد زواجها، تسهر على رعايتهم وتكون لهم سندًا وعونًا، لا كأم فقط بل كصديقة وأخت، خاصة أنها وُلدت وحيدة دون أشقاء، وبعد زواجها سعت لتحقيق حلمها القديم، فكانت تتمنى إنجاب عدد من الأطفال الذين تملأ بهم بيتها دفئًا وحياة.
وبالفعل تحقق حلمها، وأصبحت أمًا لأربعة أطفال من الذكور والإناث، كانوا يمثلون لها ولزوجها البهجة الحقيقية، فقد كرّسا جهدهما لتعليمهم والسهر على تلبية مطالبهم.
وخلال فترة الحرب، شعرت «الحاج» بآلام المخاض، فذهبت مسرعة بصحبة زوجها إلى أحد المراكز الطبية لتضع مولودها الذى كانت تشفق عليه، نظرًا للظروف الصعبة التى وُلد فيها، فى ظل القصف والدمار والنزوح المتتالى، لم يتمكنوا من الاحتفاء بولادته كما فعلوا مع إخوته بسبب قسوة الحرب، واضطرارهم إلى التنقل المستمر طلبًا للسلامة أو للحصول على المواد الغذائية، فضلًا عن تدمير العديد من المنشآت التعليمية والخدمية، ومع ذلك، لم يخطر ببالها أنها قد تُحرم من قيده فى سجلات المواليد بسبب تلك الظروف، كما تقول.
حلم قديم
تضيف السيدة الثلاثينية، والأم لثلاثة أطفال بخلاف مولودها الحديث: «كنت أسعد بولادة أولادى بشكل كبير، فهو حلم قديم لى، كنت أريد إنجاب عدد من الأطفال لتعويض حرمانى من الأشقاء، صحيح أن والدى أحاطانى بكل الحب والرعاية، لكنى كنت بحاجة إلى إخوة أشاركهم حياتى، لذلك، عندما تزوجت، صممت على تحقيق هذا الحلم، وأنجب أكبر عدد من الأبناء».
وتتابع قائلة: «جاءت ولادتى الأخيرة وسط ظروف الحرب والعدوان على غزة، وهو ما أصابنى بالقلق على مولودى الأخير، سواء بسبب القصف المتتالى الذى تتعرض له غزة، أو بسبب انهيار المنشآت الخدمية والتعليمية والصحية. حرمت طفلى من حقه البسيط فى الاحتفال بمولده مثل إخوته، لكن ما لم أتخيله هو أن يُحرم من قيده فى سجل المواليد، رغم مرور أكثر من شهرين على ولادته، ولم أتمكن بعد من تسجيله رسميًا وإلحاقه بالأسرة».
وقالت: «فور استعادتى صحتى وقدرتى على الحركة، حملت طفلى وتوجهت به إلى إدارة قيد الأطفال والسجلات فى غزة لتسجيله فى دفتر المواليد، لكننى فوجئت بعدم إمكانية ذلك بسبب ظروف الحرب. لا أدرى متى سينتهى هذا الوضع، ولا مدى تأثيره على مستقبل طفلى، خاصة أن الخدمات الضرورية تتطلب أوراقًا ثبوتية للحصول عليها، وأبسطها شهادة الميلاد.. هل يُعقل أن يُولد ابنى منذ أكثر من شهرين ولا أستطيع استصدار شهادة ميلاد له؟! هل يُعقل ألا يكون له اسم رسمى؟!».
تمتد حرب غزة من القتل والإصابات وتدمير المنشآت والبنية التحتية، لتصل إلى حرمان الأطفال حديثى الولادة من حقهم فى الوجود القانونى وتسجيلهم فى دفاتر المواليد.
ماذا يعنى عدم تسجيل المواليد؟
يترتب على عدم تسجيل المواليد الجدد فى قطاع غزة حرمان الطفل وأمه من الحصول على العديد من الحقوق الأساسية، مثل استخراج شهادة الميلاد، والانضمام إلى الأسرة رسميًا، والحصول على الألبان، والمتابعة الصحية للأم والرضيع.
كما يُحرم الطفل من احتسابه ضمن أفراد الأسرة عند توزيع المواد الغذائية، ويُمنع من السفر مع والديه، بالإضافة إلى عدم حصوله على التطعيمات الضرورية التى تحميه من الأمراض والفيروسات المنتشرة فى ظل البيئة غير الصحية الناتجة عن الحرب.
الحرمان من التطعيمات
تقول نهر خالد، وهى إحدى الأمهات اللاتى لم يتمكنّ من تسجيل مواليدهن: «لم أتمكن من تسجيل طفلى الأول، الذى شاءت الأقدار أن يولد فى ظل الحرب والتهجير والنزوح المستمر، مما جعل عملية الحمل والولادة شديدة الصعوبة والتعقيد، ولم تتوقف معاناتى عند الولادة فقط، بل امتدت بعدها، إذ لم أستطع تسجيله فى دفتر المواليد».
وتتابع: «عندما توجهت إلى أحد المراكز الطبية للحصول على التطعيمات الخاصة بطفلى، فوجئت برفض القائمين هناك تقديم أى خدمات بسبب عدم وجود شهادة ميلاد، رفضوا حتى إجراء الفحوصات الطبية له، لأننى لا أملك أوراقًا ثبوتية تخصه، هذا يعنى أنه معرض للإصابة بأى من الفيروسات أو الأمراض الخطيرة، وقد يفقد حياته أو يعيش بصحة ضعيفة فى بيئة غير آمنة بسبب الحرب».
البقاء جائعًا
إحدى الأمهات اللاتى رفضن ذكر أسمائهن عبّرت عن المأساة، التى تعرضت لها نتيجة عدم تمكنها من تسجيل ابنها فى السجلات الرسمية بقولها: «أعانى من سوء تغذية واضح بسبب نقص الطعام نتيجة ظروف الحرب والحصار ومنع وصول المواد الغذائية لأهالى القطاع، مما أثر سلبًا على حالتى الصحية، وكدت أفقد مولودى نتيجة المضاعفات الصحية الخطيرة التى مررت بها، حتى إن بعض الأطباء شككوا فى إمكانية إتمام الحمل والولادة بسبب التدهور الحاد فى صحتى وفقدانى الكثير من الوزن نتيجة نقص الغذاء».
وتابعت: «لكنى صممت على الاحتفاظ بابنى، إلا أننى صُدمت بشدة بعد الولادة، فلم أتمكن من تسجيله أو استصدار شهادة ميلاد له، كما لم أستطع الحصول على التطعيمات الخاصة به، وأخيرًا لم أتمكن من صرف الألبان له لتغذيته بسبب عدم وجود شهادة ميلاد».
وأردفت: «والآن أعيش على الألبان التى يتبرع بها الجيران والمعارف، نظرًا لعدم قدرتى على الرضاعة الطبيعية بسبب سوء حالتى الصحية، الأزمة- والأكثر رعبًا من الحرب نفسها- أن يظل طفلى جائعًا، ولا أملك له بديلًا إلى أن تتوافر بعض الألبان بالصدفة أو المساعدة».
مانع قانونى
لم يكن الحرمان من الحقوق الأساسية كالرعاية الصحية أو التطعيمات أو الحصول على الألبان هو وحده ما يتعرض له الرضع نتيجة الحرب، وإنما هناك أيضًا عائق قانونى أحدث ضررًا بالغًا للأسر فى قطاع غزة، وهو المنع من التنقل والسفر.
هذا ما واجهه إبراهيم العزاوى، الذى لم يستطع السفر نتيجة عدم تمكنه من استصدار شهادة ميلاد ابنه الأخير بسبب ظروف الحرب التى منعته من استخراج الوثائق الرسمية.
يقول «العزاوى»: «بعد الحرب والعدوان على غزة، فكرت فى اصطحاب أسرتى والسفر حرصًا على حياتهم، لكنى صدمت بمانع قانونى، وهو عدم تمكنى من اصطحاب كامل أسرتى، بسبب طفلى الأخير الذى لم يُقيد فى جواز السفر نتيجة عدم استصدار شهادة ميلاد له، وذلك بسبب تعطل المرافق الأساسية نتيجة الحرب والعدوان الصهيونى على غزة».
وتابع: وعلى الرغم من الهدنة وتوقف آلة القتل الصهيونية، فإن حياتنا ما زالت معطلة، وكل ما نرجوه هو أن تعود حياتنا إلى طبيعتها مرة أخرى.
أزمة مع دخول الشتاء
«الأزمة الحقيقية ما سنواجهه خلال الشتاء».. بهذه الكلمات بدأ أبوالضو، كبير أسرة «الضوى» فى قطاع غزة، معبرًا عن حزنه وقلقه على أحدث أحفاده الذى وُلد خلال معاناة غزة مع الحرب والعدوان.
يقول: «سعدنا جميعًا بقدوم أحدث أحفادى إلى الدنيا، رغم ظروف الحرب والحصار والتجويع، لكننا اعتبرناه دلالة وبُشرى على قرب انتهاء العدوان، إلا أن فرحتنا لم تكتمل بسبب عدم تمكُّنا من إلحاقه بالعائلة رسميًا نتيجة عدم استصدار شهادة ميلاده، وبالتالى لم يستطع الحصول على أى من الخدمات التى تُقدَّم للأطفال الصغار، سواء الرعاية الصحية أو الغذائية.
وأردف: «ما نخشاه الآن هو استمرار هذا الوضع مع قدوم فصل الشتاء، وما يحمله من أمراض وصعوبات معيشية مضاعفة».
نترحم على الماضى
تربط إحدى السيدات اللاتى رزقتهن الحرب بتوأم بين الوضع الحالى وما كان عليه الحال قبلها، فتقول: «كنا فى الماضى، قبل الحرب، نسارع بإصدار شهادات الميلاد للأطفال حديثى الولادة لضمان حصولهم على التطعيمات والألبان وغيرها من الحقوق، أما الآن فلا وجود لذلك.. ونترحم على تلك الأيام».
الأزمة فى مراكز الإيواء
أزمات عديدة تواجه الأمهات بسبب عدم تسجيل أبنائهن، حتى فى مراكز الإيواء، وهو ما تعرضت له «رزينة» التى تقوم بدور الأب والأم لطفلها المولود حديثًا بعد اختفاء والده، وعدم الاستدلال على مكانه نتيجة الحرب والنزوح المتتالى.
تقول «رزينة»: «لم أستطع الحصول على أى من المساعدات داخل مركز الإيواء الذى أعيش فيه لطفلى، بسبب عدم وجود أى أوراق رسمية له، ورغم ولادته منذ فترة، لم أستطع حتى الآن تسميته رسميًا، فابنى بلا اسم، وبلا رعاية صحية، ومحروم من كل الحقوق وأبسطها، وكل ما أتمناه أن ينتهى هذا الوضع سريعًا، ليتمكن طفلى من التمتع بطفولته كغيره من الأطفال».
بينما أشار أحد أرباب الأسر- رفض ذكر اسمه- إلى أن المعونات تُوزَّع فى كثير من الأحيان، وفقًا لحجم وعدد أفراد الأسرة، وأن إضافة طفل إلى عدد الأسرة تعنى زيادة فى كمية السلع الغذائية المخصصة لهم، مما يساعدهم على سد جوعهم.
لكن بسبب عدم تسجيل مواليدهم، حُرمت عشرات الأسر من تلك الزيادات، وباتت عاجزة عن تلبية احتياجاتها الأساسية فى ظل هذا الحصار الطويل.
حجم المعاناة
يتضح حجم المعاناة التى تواجهها الأسر والأمهات فى توفير تلك السلعة، التى تشهد ارتفاعات غير مسبوقة بسبب ظروف الحرب، حيث يضطرّون فى أحيان كثيرة إلى الحصول عليها بجهودهم الذاتية أو انتظار متبرعين بها، نتيجة عدم تمكنهم من الحصول عليها عبر المساعدات الإنسانية بسبب عدم تسجيل أبنائهم المولودين حديثًا.
وبحسب بيان غرفة التجارة والصناعة بغزة الصادر فى منتصف العام الجارى، فقد ارتفع مؤشر أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 1290%، فقد ارتفع سعر حليب الأطفال من 7.4 دولار قبل الحرب إلى 10.3 دولار، كما ارتفع سعر حفاضات الأطفال، التى كانت تكلفتها قبل الحرب نحو 8.5 دولار، لتُباع الآن بـ82.3 دولار للعلبة الواحدة.
ومن جانبها، أوضحت وزارة الصحة الفلسطينية أن هناك نحو 60 ألف سيدة حامل فى القطاع، وبعد مرور 10 أشهر من الحرب وضعت جميع النسوة حملهن، وسجّلت الوزارة نحو 55 ألف ولادة ناجحة.
قال مدير مركز المعلومات فى وزارة الصحة الفلسطينية، زاهر الوحيدى، فى تصريحات صحفية: «وسط هذه الحرب المروعة، هناك طفل يُولد كل 10 دقائق».
وفى السياق ذاته، دعت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسف» إلى تحرك دولى عاجل لإنقاذ مواليد غزة، والعمل على توفير الحماية الكاملة لهم، والوفاء بجميع احتياجاتهم الأساسية من غذاء وماء وظروف صحية مناسبة، وعدم حرمانهم من أبسط حقوقهم.
وشدد بيان المنظمة على ضرورة إزالة أى عائق يحول دون وصول المساعدات الإنسانية، سواء كان قانونيًا أو نتيجة تعنت قوات الاحتلال، مؤكّدًا أن استصدار شهادات الميلاد يُعد من أبسط الحقوق التى يجب أن يتمتع بها مواليد غزة.
دعت المنظمة إلى ضرورة العمل على إصلاح المؤسسات والمرافق فى غزة، لتتمكن من أداء واجبها فى خدمة المواطنين، وضمان عدم تأثر الأطفال سلبًا بهذه الظروف القاسية.
أما المتحدث باسم وزارة الداخلية الفلسطينية، إياد البزم، فقد أوضح سبب عدم تسجيل الأطفال واستصدار شهادات الميلاد لهم، قائلًا فى تصريحات صحفية: «إن عدم إصدار شهادات الميلاد الخاصة بالمواليد الجدد هو أحد التأثيرات السلبية للحرب، فالقصف المركز الذى طال المبانى والمنشآت المدنية والحكومية أفقدنا القدرة على الوصول إلى المعلومات الخاصة بالمواطنين، وتلقائيًا أصبحنا عاجزين عن تسجيل الأطفال».
وتابع المتحدث باسم وزارة الداخلية فى فلسطين قائلًا: «الحرب تسببت فى تعطل السيرفرات الخاصة بالشؤون المدنية، ودمر الجيش الإسرائيلى عددًا من المقار الحكومية، إلى جانب التعطل شبه التام فى خدمات الإنترنت، وكل ذلك أوقف إنجاز المعاملات الحكومية».
