عروض الصوت والضوء بالأهرامات واحدة من أعظم التجارب الموسيقية، التى تروى تاريخ وعظمة الأهرامات وأبو الهول، حتى أن حضور هذه العروض بات من أشهر المناسبات التى يحرص السائح على الاستمتاع بها.
وما يميز هذا العرض، ليس السر التاريخيى لملحمة بناء الأهرامات فحسب، ولكن هذه الموسيقى المهيبة والآسرة التى تمنح أحاسيس عميقة بروعة وعظمة وشموخ الأهرامات والحضارة المصرية القديمة، وهى الموسيقى التى وضعها ابن من أبناء النيل المصريين، حينما امتلأت روحه بالأصالة والتراث المصرى، وراح يمزجها بموسيقى الغرب، فمنحنا مذاقا خاصا لا مثيل له، وهو الموسيقار المصرى حليم الضبع.
الموسيقار العالمى حليم الضبع، أحد أهم الموسيقيين المصريين فى القرن العشرين، بل أحد أهم المؤثرين فى الموسيقى الأمريكية، وربما العالمية، نجما مصريا خالص، قادم من صعيد مصر، خطف أنظار المُبدعين، قبل الجمهور، وتعلق بإبداعاته كبار الفنانين فى شتى أنحاء العالم، لما وجدوا فيه من ذائقة مختلفة، تحمل النكهة المصرية الغريبة عليهم، ممزوجة بمد افريقى ملحوظ، فقد كان شغف الضبع بموسيقى الشعوب، هو السمة التى ميزته عن أقرانه.
مسيرة طويلة وممتدة قاربت القرن من الزمان، شهدت العديد من التحولات، من مصر، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم إلى أفريقيا، والعودة للولايات المتحدة، ومن العمل فى السينما المصرية، إلى تأليف الموسيقى لأهم راقصة فى القرن العشرين وهى مارثا جراهام.
وفى سبتمر الماضى، يكون قد مر على رحيل الضبع، 8 سنوات، حيث رحل عن عالمنا فى 2017، عن عمر ناهز الـ97 عاما، بمسيرة موسيقية يمكن وصفها بالعبقرية، وقد سجل الضبع، هذا المسيرة، فى كتاب، للباحثة بجامعة كينت الأمريكية دينيس سيرشيرست، احدى تلميذات الضبع، بعنوان «العالم الموسيقى لحليم الضبع.. Musical World of Halim El-Dabh»، ليبدو وكأنه سيرة حياتية للموسيقار الراحل، نستعرضها خلال هذه السطور.
ميلاد موسيقار.. تقول دينيس فى افتتاحية كتابها، أنجبت الأم بلسم الضبع آخر أطفالها التسعة، حليم، فى 4 مارس 1921، وبينما كانت تبكى من التعب والفرح، قالت لـ«الداية»: «العاصفة تبشر بوصول طفل مبارك ومميز للغاية».
كان والد حليم رجلا متدينا يجمع العائلة للصلاة والغناء كل يوم قبل مغادرته للعمل، التحق حليم الضبع بمدرسة مقابلة لمنزله، عندما كان فى الرابعة من عمره فقط، وظل بالمدرسة اليسوعية ليتعلم بها كل شيء، حتى الفرنسية.
كان حليم متفوقا دراسيا، ولأنه أظهر موهبة كبيرة فى الصف الثانى، قفز مبكرا إلى الصف الثالث، بل للصف الرابع، وعلى الرغم من نشأته القبطية، كان يشعر بالراحة بين أصدقاءه المسلمين، ويقول إنه دائما ما كان يشعر بالراحة بنفس القدر فى المسجد أو الكنيسة، وفى عام 1932 أيضا، اكتشف شغفه بالموسيقى، ليلحق بمعهد سكولتز الموسيقى، ليتعلم العزف على أوبرا بيتهوفن، وقد أقيمت أول حفلة موسيقية له بعد شهر واحد فقط من التحاقه بالمعهد، واستخدمه الموظفون كوسيلة ترويجية لجذب المزيد من الطلاب، وفى نفس العام، حضر ندوة موسيقية كبرى دعا إليها الملك فؤاد، وبعد سنوات دراسته الإعدادية اكتشف موهبته الفطرية فى تقليد الأصوات.
درس «الضبع» الزراعة، وتفوق فيها بفضل خبرات العائلة، فتم اختياره للسفر إلى القرى، لتقديم المشورة حول أفضل السبل لاستغلال الأرض، وكان يتم دعوته دائما للبقاء لحضور حفلات غناء ورقص، مصحوبة بآلات مختلفة، وسرعان ما أدرك الضبع أن سكان القرى مرتبطون ارتباطا وثيقا بالأرض، وأن الأرض غنية ليس فقط بالمنتجات الزراعية، بل بالموسيقى أيضا.
وشهد عام 1942 الشرارة الأولى لرغبته فى دراسة الموسيقى، من خلال أول ظهور حقيقى له على الجمهور كموسيقى عندما حصل على الجائزة الأولى فى مسابقة بيانو بدار الأوبرا المصرية.
التنقل بين القرى، مكنه من الاطلاع على موسيقى الفولكلور الشعبى، وخلال 10 سنوات، كان قد تهيأ ليكون عالم «موسيقى إثنوغرافية» وملحن.
كان جمهوره الأول فى حياته، هؤلاء الذين ينتظرون نغمات البيانو التى يطلقها فى الثانية صباحا، فيتركون النوافذ مفتوحة، كى يستمعون جيدا لموسيقاه، لتتسرب موهبته من هذه النوافذ المفتوحة إلى الأوساط الموسيقية، وخلال هذه الفترة تعرف على أصدقاء يجمعهم حب الموسيقى، البعض منهم كان على اتصال بالعديد من جمعيات الموسيقى الكلاسيكية فى القاهرة، وحينما أعلنت جمعية «تيجويس»، التى لها فرع فى فرنسا، عن رغبتها فى التقرب أكثر من الموسيقيين المصريين، دعاه صديقه للذهاب، لكنه رفض خوفا من ترك الزراعة.
ساهم انتشاره بين الأوساط الموسيقية، فى وصول صيته، للمخرج السينمائى حسين حلمى، وطلبه لتأليف موسيقى لفيلم فرفض الضبع طلب حلمى لنفس السبب «خوفا من ترك الزراعة»، ومع ذلك أرسل المخرج له رجال أحضروه بالقوة إلى استوديوهات مصر، ليتم الاعتراف به فى تتر فيلم «أزهار وأشواق» وقد عُرض الفيلم عام 1946، فى القاهرة والهند وحصل الضبع على 100 جنيه أى ما يعادل وقتها 500 دولار.
بعد الثورة، كان الضبع مفتونا بعبد الناصر وأيديولوجيته، وشعارات الوحدة العربية وألّف أغنية «يا جمال يا ناصر».
اتصل به الملحق الثقافى الأمريكى بهدف تشجيعه على التقدم بطلب للحصول على منحة دراسية وبالفعل تم اختياره الضبع ليكون واحدا من 7 تم اختيارهم من بين أكثر من 500 متقدم للسفر إلى الولايات المتحدة، ولغرامه بموسيقى الشعوب، أكد الضبع أنه يريد تعلم المزيد عن موسيقى السكان الأصليين.
الضبع فى أمريكا.. كانت زيارة أمريكا حلما للضبع، منذ أن كان صبيا صغيرا يستمع إلى حكايات والدته، عن خاله الذى يقيم هناك، وحينما وصل إلى مدينة نيويورك، انبهر بمشاهد وأصوات المدينة الكبرى، وبدأ من هذه اللحظة يُعيد نظرته فى علاقته بالعالم، فتذكر الأهرامات، التى تملأه بنفس مشاعر الرهبة والدهشة التى يشعر بها هنا فى نيويورك.
أتاحت الإقامة فى جامعة دنفر للضبع فرصة تكوين صداقات مع العديد من أعضاء أوركسترا دنفر السيمفونية، الذين كانوا يقيمون معه فى أحد مساكن الجامعة، ونظرا لقلة عدد الطلاب الأجانب فقد انبهر الموسيقيون بالشاب المصرى الأسمر، ودعوه لحضور مهرجان موسيقى، كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر لعلمهم بحضور الموسيقار الشهير إيجور سترافينسكى.
سهر الضبع حتى وقت متأخر من الليل يدرس الإنجليزية، فنام أكثر من اللازم، وكادت فرصة لقاء سترافينسكى تفوته، خرج مسرعا وحاول أن يشير إلى سيارة، فتوقفت، وفى مشهد سينمائى اقترب منها وانحنى لينظر من خلال الزجاج لنافذة الراكب، ففوجئ برؤية سترافينسكى يحدق فيه.. استجمع شجاعته، وبدأ يتحدث بالفرنسية معه، ففوجئ أنه سمع عنه، وأنه مُعجب به، وعندما وصلوا إلى أرض المهرجان، دعاه ليكون مساعده خلال فترة عمله.
دفع تفوق الضبع المسئولين إلى تكليفه بمسؤولية التدريس للطلبة صغار السن، وبالتزامن مع ذلك بدأ العمل على سيمفونية خاصة به للأوركسترا الكاملة، بعدها بدأ الاعداد للحصول على درجة الماجستير فى الموسيقى لدراسة النظرية والتأليف الموسيقى ثم تقدم الضبع بطلب القبول، وسعد للغاية لإخطاره بحصوله على منحة دراسية لمدة عامين.
أصبح للضبع شأن كبير فى المجتمع الموسيقى الأمريكى، بفضل موسيقاه، والتى كان يُمتع بها الجمهور، وفى نفس الوقت، واصل طريقه الدراسى، وأيضا قام بتأليف مقطوعات موسيقية عن مصر القديمة، منها أسطورة الإله المصرى «رع».
فى هذه الأثناء رُزق الضبع وزوجته بـابنتهما الأولى «شادية» التى سمّتها جدتها لأمها تيمّنا بالمطربة شادية، وكان لميلادها وقع بالغ على والدها المبتهج، فقد دعى لحفل فخم ليعزف أمام جمهور، الذين أعجبهم عزف الضبع على آلة «الدربوكا»، وكان من بين الحضور يوجين ليستر، المدير الموسيقى لمارثا جراهام رائدة الرقص الحديث فى العالم، والذى أخبره إنها ستكون مهتمة جدا بالتعرف عليه.
وفى إحدى ليالى يوليو 1957، ذهب الضبع لمارتا جراهام فى الاستوديو الخاص بها، دخلت جراهام فى مشهد مهيب، فاقترب منها الضبع وقبل يدها على الطريقة الباريسية، وبدأوا يستمعون لموسيقى الضبع لمدة ساعتين، لم تعلق تعليقا واحدا، وحينما انتهت الموسيقى، شكرته وغادرت، وسط تعجبه من تجاهلها، ثم تكرر اللقاء بنفس تفاصيله فى الأسبوع التالى وأيضا دون تعليق من جراهام.
فى المرة الثالثة، تلقى الضبع اتصالا من ليستر يخبره أن جراهام مُهتمة ومُعجبة وتريده لعرض كليتمنسترا فوافق الضبع.
عمل الضبع بجنون، متخيلا الراقصين وراسما صورا لهم فى دفتر ملاحظات.. وقد تأمل مارتا جراهام ليصل إلى مضمون صراع كليتمنسترا، لا سيما أنها كانت فى صراع عنيف فى ذلك الوقت مع زوجها، أدرك الضبع أن جراهام لديها حس تجاه الفلسفة الشرقية ولديها أفكارا لها علاقة بمصر القديمة.
وفى يوم 1 أبريل 1958، ليلة افتتاح باليه كليتمنسترا، رأى بعينه نجاحه الكبير فى نيويورك حيث كان المسرح ممتلئا واضطرت جراهام إلى تمديده وأشادت الصحافة بالعرض.
وصلت متانة العلاقة بين الضبع وجراهام إلى الدرجة التى جعلت جراهام هى من تطلق على ابنة الضبع الثانية اسم «أميرة» وكما فعل مع شادية، احتفل الضبع بمناسبة ولادة الطفلة بمقطوعة موسيقية على البيانو.
الطير المُهاجر يعود لوطنه.. دفع نجاح حليم الضبع فى نيويورك خريف عام 1959 وزير الثقافة فى الجمهورية العربية المتحدة ثروت عكاشة إلى توجيه دعوة للملحن لزيارة مصر بصفة دائمة، ترددت الزوجة لكن الضبع قبل الدعوة بحماس ليعود إلى الوطن كـ «بطلا فاتحا».
وفى القاهرة، عرض عكاشة على الضبع أن يشارك فى تطوير الموسيقى الشعبية المصرية ودراسات الموسيقى المصرية أثناء وجوده ضيفا على الحكومة فوافق الضبع وتم تعيينه على الفور فى منصب «خبير استشارى فى الفنون الجميلة لوزير الثقافة».
وتذكر مجلة الكواكب فى عددها الصادر بتاريخ 2 فبراير عام 1960، إن القرار لم يشمل الضبع فحسب، ولكنه ضم أيضا عبد المنعم الصاوى، وأحمد سعد الدين، والمستشار محمد فتحى، وذلك لتكوين لجنة موسيقية.
تم توفير المكتب للضبع بقصر عابدين لكن لم يمض وقت طويل حتى اكتشف الضبع أن متطلبات منصبه الإدارى خانقة فطلب بيانو فى مكتبه، بل طلب مكتبا يطل على أهرامات الجيزة بشرط ألا يكون به هاتف، فلبى عكاشة طلبات الضبع، ومع ذلك رفض الضبع الانخراط فى الجوانب البيروقراطية التى تصاحب عادة مثل هذا المنصب.
ثم عيّن عكاشة الضبع للعمل فى مشروع يُعرف باسم «قلاع الموسيقى»، حيث كان من المقرر جمع أفضل موسيقيى التقاليد الشعبية والكلاسيكية فى كل محافظة مصرية للالتقاء والعزف، وقد توافد الناس من جميع أنحاء العالم لحضور هذا الحدث، وكان الضبع متحمسا للتبادل الثقافى الذى يجرى الترويج له.
كانت مهمة الضبع الأساسية جمع الموسيقى التقليدية المصرية، ولهذا الغرض، تم توفير مركب منزلى مفروش لنقل عائلة الضبع على نهر النيل حتى السد العالى فى بحيرة ناصر، ثم إلى السودان، وقام بتسجيلات فى القرى الواقعة على طول النهر وموسيقى من صعيد مصر والنوبة، والتى قدمها لاحقا إلى المركز الثقافى الحكومى المصرى.
اختاره الرئيس جمال عبدالناصر لتأليف موسيقى مشروع الصوت والضوء، وهو عرض ليلى فى الهواء الطلق يتضمن أضواء ملونة تُعرض على خلفية أهرامات الجيزة.
تم عرض موسيقى سلسلة الضبع المصرية «موسيقى الأهرامات»، بـ7 لغات، وذلك كل مساء منذ عرضها الأول فى 23 يوليو 1961 ولسوء الحظ، نظرا لتكليف الحكومة المصرية بها، لم يتلقَّ الضبع أى حقوق ملكية.
ووفقا لنفس الكتاب، فقد عُرضت عليه وزارة الثقافة لكنه رفض متحججا بأن العمل فى بيئة بيروقراطية لا يناسب شخصيته، وفضّل مواصلة التأليف على الخضوع للمتطلبات الإدارية ليعود إلى الولايات المتحدة الامريكية، ومنها تبدأ رحلته الأفريقية، التى استهلها بأثيوبيا لإجراء دراسة مقارنة للكنيسة القبطية فى مصر والكنيسة القبطية الإثيوبية، لتكتمل بدراسته الموسيقية الأفريقية، تجربته الفريدة فى موسيقى الشعوب.
بالعودة لزيارة الضبع لمصر، نرى أن مجلة الكواكب أجرت معه حوارا صحفيا عام 1960، قال فيه إن روح الثورة العملاقة بقيادة جمال عبد الناصر قد بعثت كل شىء، ووضعت قواعد نهضة قومية مباركة فى كل الميادين، ثم أخذ يروى انجازته فى الولايات المتحدة الامريكية، منذ تعلمه الموسيقى على يد شقيقه الأكبر، وحتى تألقه فى أمريكا.
ويمكن الكشف عن شخصية حليم الضبع فى جملة قالها أثناء الحوار، «حاولت طوال فترة دراستى أن اصل إلى العلاقة بين الموسيقى العربية وزميلتيها الأمريكية والأوربية، ووجدت أن موسيقانا لها دور كبير فى تطوير الموسيقى الأوربية والأمريكية على السواء.. لذلك لدى إيمان بأن لدينا رؤية فنية لا حدود لها، وأظن أن وجودى وظن 1وئئووجودی فى أمريكا يجعلنى أؤدى خدمة كبيرة لبلادى وأصنع لها دعاية مجانية عن طريق نشاطى الموسيقى».
ويوضح الضبع: «لقد ألفت 3 سيمفونيات وموسيقى باليه، وحاولت تطوير الأوبرا الموسيقية المعروفة فى القرن التاسع عشر، كل ما يعنينى هو أن يكون المستمع على اتصال مباشر بى، وبعض مؤلفاتى بسيطة جدا يمكن أن يتذوقها المستمع العادى».
وللضبع رؤية خاصة فى فن السينما فى الولايات المتحدة، حيث يقول: «المسرح فى أمريكا هو كل شىء والشعب هناك يقبل على المسرح أضعاف ما يقبل على السينما وهم يعتبرونها شيئا تجاريا بحتا، لا عملا فنيا، وهوليوود تُصنع أفلامها للتصدير وليس للاستهلاك المحلى».





p