لا تزال الألعاب الإلكترونية تمثل خطرًا كبيرًا على الأطفال، في ظل انتشار محتوى عنيف ومضلل يروج للقتل والدمار، ويؤثر على عقولهم في غياب تام لدور الأسرة الرقابي.
وتجسدت هذه الخطورة بوضوح في واقعة الإسماعيلية المؤلمة، التي راح ضحيتها طفل صغير على يد زميله، الذي لم يتجاوز عمره الثالثة عشرة، بعد أن قرر تقليد مشهد عنيف في إحدى الألعاب الإلكترونية، محولًا عالم الخيال الرقمي إلى واقع دامٍ.
بدأت تفاصيل الجريمة المروعة ببلاغ إلى الأجهزة الأمنية يفيد بتغيب طفل عن منزله، قبل أن تكشف التحريات عن العثور على جثته مقطعة إلى أشلاء، وملقاة بالقرب من مجمع تجاري شهير في مدينة الإسماعيلية.
ووسط حالة من الذهول والغضب، تمكنت أجهزة الأمن من فك لغز الجريمة، وتبين أن الجاني هو زميله في المدرسة، طفل في عمر الزهور، ارتكب جريمته بدم بارد متأثرًا بلعبة إلكترونية ومشهد سينمائي.
في التحقيقات، اعترف الطفل القاتل بتفاصيل تنفيذ الجريمة، مشيرًا إلى أنه تشاجر مع زميله، ثم قرر التخلص منه مستخدمًا طريقة شاهدها في لعبة إلكترونية عنيفة.
وقال إنه قلد شخصية بطل في أحد الأفلام الأجنبية، وهو ما شجعه على تنفيذ الجريمة بنفس التفاصيل، دون أي إحساس بالندم أو الإدراك الحقيقي لفداحة ما فعله.
تلك الاعترافات المؤلمة فتحت النار على عالم الألعاب الإلكترونية، الذي بات ملاذًا خطيرًا للأطفال دون رقابة، فالطفل الذي يفترض أن يكون في عمر البراءة، أصبح قادرًا على تنفيذ جريمة كاملة العناصر، مدفوعًا بما شاهده على الشاشة، في وقت لم يكن هناك أي توجيه أسري يمنعه أو يوجهه.
الإنترنت، وتحديدًا الألعاب الإلكترونية العنيفة، أصبح اليوم المحرك الأول للعديد من الجرائم التي يرتكبها الأطفال، حيث أن هذه الألعاب تغذي العنف وتخلق عالمًا موازيًا يغيب فيه التمييز بين الواقع والخيال.
العديد من هذه الألعاب تحتوي على مشاهد قتل وتقطيع وألفاظ نابية وممارسات عنصرية وجنسية، وهي مشاهد لا يستطيع الطفل تمييزها أو فهمها بشكل سليم بسبب عدم اكتمال نموه الإدراكي، وهنا تكون الخطورة الحقيقية، حين يتعامل معها كأفعال طبيعية يمكن تطبيقها على أرض الواقع.
ومن أبرز التأثيرات النفسية التي تخلفها هذه الألعاب على الأطفال، هي الانعزال عن المجتمع، والافتقار إلى المهارات الاجتماعية، حيث يقضي كثير من الأطفال ساعات طويلة في غرفهم، بعيدًا عن التفاعل الواقعي، مما يؤدي إلى ضعف التواصل، وصعوبة الاندماج، وقد يتطور الأمر لاحقًا إلى اضطرابات مثل الاكتئاب، القلق، وانعدام التكيف الاجتماعي.
ولا يتوقف التأثير عند هذا الحد، بل تؤكد دراسات علمية حديثة أن ألعاب الفيديو العنيفة تؤثر على مناطق محددة في الدماغ، خاصة نظام المكافأة العصبي، وهو المسؤول عن الشعور بالمتعة والتحفيز.
وتؤدي ممارسة هذه الألعاب لفترات طويلة إلى تغييرات وظيفية وهيكلية في الدماغ تشبه تلك التي تحدث لدى مدمني المخدرات، حيث يشعر الطفل برغبة دائمة في العودة للعب، وتدفعه هذه الحاجة إلى العدوانية عند منعه منها أو حتى في سلوكياته اليومية.
الطفل في هذه المرحلة العمرية يكون أكثر ميلاً للتقليد والتأثر، ما يجعله يقلد كل ما يراه في اللعبة، خاصة إذا كان يعاني من غياب التوجيه الأسري أو نقص الاهتمام، وتكمن الخطورة حين يتحول هذا التقليد إلى تطبيق فعلي، كما حدث في واقعة الإسماعيلية.
غياب دور الأسرة في مراقبة استخدام الأطفال للإنترنت كان حاضرًا بقوة في هذه الجريمة، حيث يترك بعض الآباء أطفالهم أمام الشاشات لساعات طويلة، دون وعي أو رقابة، فيما تلعب الأسرة الافتراضية على الإنترنت دورًا محوريًا في تشكيل وعي الطفل وسلوكياته، ومع تزايد هذا التوجه، أصبحت بعض البيوت تفتقد للرقابة الحقيقية، ما يضاعف من المخاطر.
ويجب اتخاذ خطوات حاسمة، تبدأ من داخل الأسرة، بضرورة مراقبة سلوك الأبناء ومتابعة ما يشاهدونه، وتقنين ساعات استخدام الإنترنت، والتدخل السريع عند ملاحظة أي تغيرات غير طبيعية في السلوك.
وضرورة التوعية المجتمعية الشاملة بخطورة الألعاب العنيفة، ومنع تداولها أو وصولها للأطفال بأي شكل، فضلًا عن وضع تشريعات واضحة لمراقبة محتوى الألعاب الإلكترونية المتداولة في السوق المصري.
من الناحية القانونية، فإن الطفل مرتكب الجريمة، وبحسب القانون، لا يُعامل معاملة البالغين، حيث ينص قانون الطفل على أن من لم يبلغ سن الخامسة عشرة لا يُسجن أو يُعدم، بل يُحال إلى محكمة الطفل التي تتخذ قرارات بإيداعه في مؤسسات تأهيل أو خضوعه لبرامج علاج نفسي وسلوكي، تهدف إلى إعادة دمجه وإصلاحه.
وتعكس هذه القوانين توجه الدولة نحو الإصلاح لا العقاب، لكنها في الوقت نفسه تؤكد أن الجريمة لا تسقط بالتقادم أو الطفولة، وأن المسؤولية مشتركة بين القانون والمجتمع والأسرة.
إن ما حدث في الإسماعيلية لم يكن مجرد جريمة تقليدية، بل كان صدمة كشفت عن واقع خطير يتشكل بصمت خلف الشاشات، حيث يربّي الأطفال أنفسهم عبر الألعاب الإلكترونية، ويكتسبون سلوكيات مدمرة تحت سمع وبصر مجتمع صامت، وأسرة غائبة.