فى لحظة فارقة من التاريخ المعاصر، بدت كلمات الرئيس عبد الفتاح السيسى فى قمة شرم الشيخ للسلام أقرب إلى النداء النبوى الشهير «استقيموا يرحمكم الله» نداء للعقل والضمير، قبل أن يكون نداءً للسياسة. فقد جاءت القمة لتعلن أن مصر اختارت طريق الاستقامة وسط عواصف الانحرافات السياسية، وأنها لا تساوم على الحق، ولا تنحنى أمام الضغوط، ولا تتنازل عن ثوابتها التى أثبتت أنها الركيزة الأهم لاستقرار الإقليم.
تُعيد مصر اليوم كتابة فصل جديد من تاريخها، عبورًا ثانيًا لا يُخاض بالدبابات كما فى أكتوبر 1973، بل بالدبلوماسية والعقل والرؤية. فبينما تتقاذف الأزمات الإقليمية أطراف الصراع وتنهار خرائط التحالفات، اختارت القاهرة أن تكون ميزان المنطقة، وأن تحوّل أرض السلام فى شرم الشيخ إلى منبر يعيد تعريف القيم السياسية فى عالم مضطرب.
لقد جاء حضور الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، إلى جانب قادة عرب وأوروبيين، اعترافًا ضمنيًا بأن القاهرة عادت إلى قلب الحدث، وأنه لا يمكن لأى تسوية أن تتم من دونها. فالمشهد الذى حاول البعض تهميشه لسنوات عاد اليوم بأبهى تجلياته، لتقول مصر بثقة: من هنا يُصنع القرار، ومن هنا يُكتب السلام.
منذ بداية الحرب على غزة، ظلت مصر صلبة فى موقفها: لا لتصفية القضية، لا للتهجير، نعم لحل الدولتين. ورغم ما تعرضت له من حملات تشويه واتهامات باطلة، تمسكت القاهرة بالحكمة التى ميزت سياستها الخارجية لعقود، مدركة أن العدل هو الطريق الوحيد إلى الأمن.
كلمة الرئيس السيسى فى القمة كانت بمثابة ميثاق جديد للمنطقة: لا استقرار دون عدالة، ولا سلام دون دولة فلسطينية مستقلة، ولا أمن لمصر أن انكسر الجار الفلسطينى. قالها بوضوح حين حذر من أى محاولة لدفع الفلسطينيين نحو الحدود المصرية، مؤكدًا أن هذا خط أحمر يتصل بجوهر الأمن القومى المصرى وكرامته.
فى القاعة التى شهدت مفاوضات السلام قبل عقود، عادت مصر لتقدم نموذجًا مختلفًا للدبلوماسية: دبلوماسية المبادئ لا المجاملة، والرؤية لا الانفعال. فقد استطاعت القاهرة أن تجمع المتخاصمين فى مكان واحد، وتفرض أجندة واقعية تنطلق من وقف الحرب إلى إعادة الإعمار، ثم إلى حل سياسى شامل، رافضة أى حلول جزئية أو مؤقتة تكرّس الاحتلال وتؤجل العدالة.
ولم يكن من المستغرب أن تحظى تلك المواقف بإشادات غربية واضحة. فقد وصفت صحيفة واشنطن بوست الدور المصرى بأنه "الأكثر اتزانًا وعمقًا"، واعتبرته "العقل الوحيد الذى يتحدث لغة الأخلاق وسط ضجيج المصالح". أما فاينانشال تايمز فرأت أن مصر استعادت مكانتها "كصانعة للتوازن فى الشرق الأوسط"، بينما وصف دبلوماسى فرنسى مصر بأنها "الركيزة التى لا تنهار مهما اشتدت".
فى المقابل، وجدت إسرائيل نفسها فى عزلة غير مسبوقة، بعدما فقدت تعاطف الرأى العام العالمى، وأدركت القوى الكبرى أن سياساتها فى غزة لم تجلب سوى الفوضى. وبينما تزداد عزلتها، تتسع دائرة احترام مصر التى استطاعت أن تجمع بين الواقعية السياسية والموقف الأخلاقى، فى وقت ندر فيه من يوازن بينهما.
لم تكن قمة شرم الشيخ مجرد لقاء بروتوكولى، بل لحظة استعادة للدور والثقة، داخليًا وخارجيًا. فمصر التى واجهت تحديات اقتصادية وأمنية صعبة، أثبتت أن ثوابتها السياسية قادرة على إعادة التوازن الإقليمى وإلهام الداخل معًا. ومن رحم المعاناة، خرجت لتقول للعالم: الحكمة لا تعنى التردد، والصبر لا يعنى الضعف، والتمسك بالمبدأ هو أقصر طريق إلى النصر.
إن الرسالة الأعمق التى خرجت من قمة شرم الشيخ هى أن الاستقامة السياسية ليست شعارًا، بل سلوك دولة تعرف قدرها. فكما كان العبور الأول فى أكتوبر تحريرًا للأرض، فإن العبور الثانى فى أكتوبر 2025 هو تحريرٌ للإرادة، وتأكيد أن من يقف مستقيمًا فى زمن الانحناءات، يرحمه الله والتاريخ معًا.
ولكنها مصر التى قال عنها عبدالرحمن الأبنودى.. "ومصر عارفة وشايفة وبتصبر.. وبتصبر، لكنها فى خطفة زمن تعبر وتسترد الاسم والعناوين".