من نيويورك إلى بكين أين ينعقد الاجتماع السري لإدارة الكوكب؟.. مجلس إدارة العالم من أوهام هوليوود إلى سياسات البيت الأبيض والكرملين والتنين الصيني.. هل يدير قلة من البشر مصير مليارات؟

الأربعاء، 01 أكتوبر 2025 10:30 م
من نيويورك إلى بكين أين ينعقد الاجتماع السري لإدارة الكوكب؟.. مجلس إدارة العالم من أوهام هوليوود إلى سياسات البيت الأبيض والكرملين والتنين الصيني.. هل يدير قلة من البشر مصير مليارات؟ خبراء سياسيون

كتب رامى محيى الدين – أحمد عرفة

** أستاذة علوم سياسية: العالم محصور بين قطبين والعرب يمكنهم إعادة التشكل كقوة كبرى خارج سياق الهيمنة

** خبير سياسى: هناك  لوبيات قوية تؤثر في رسم خريطة السياسات الدولية داخل الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك بالصين وروسيا والاتحاد الأوروبي


**خبير سياسى مغربى: القطبية الواحدة للعالم مازالت قائمة ولكن ليست بنفس التأثير

** خبيرة في الشئون الآسيوية: الصين وروسيا وكوريا الشمالية تعمل على تغيير النظام العالمى

 

في مقاهي السياسة وعلى شاشات الإعلام، كثيرًا ما يتردد تعبير ساخر: "مجلس إدارة العالم"، الكلمة تثير الفضول؛ هل هناك حقًا مجموعة تجتمع في مكان ما، خلف أبواب مغلقة، لتقرر من يحكم، ومن يسقط، وأي حرب تُشعل، وأي أزمة تُطفأ؟.. الحقيقة أن العالم لا يعرف كيانًا رسميًا بهذا الاسم، لكن الفكرة ظلت تطارد المخيلة منذ عقود.

جذور الفكرة: من المؤامرة إلى التوصيف السياسي
 

مصطلح "مجلس إدارة العالم" استخدم كناية عن القوى العظمى، خاصة أعضاء مجلس الأمن الدائمين الخمسة (أمريكا، روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا). هؤلاء يملكون حق النقض "الفيتو" في قرارات السلم والحرب، ما يجعلهم فعليًا قادرين على تعطيل أو تمرير أي قرار دولي. لذلك يرى كثيرون أن مجلس الأمن ليس إلا "غرفة اجتماعات لمجلس الإدارة العالمي".

لكن الفكرة لم تتوقف عند الأمم المتحدة، ظهرت كتابات وصور نمطية عن نخب مالية مثل عائلات روكفلر وروتشيلد، أو لوبيات اقتصادية وشركات تكنولوجية عملاقة في وادي السيليكون، باعتبارها صاحبة القرار الحقيقي، بعيدًا عن السياسيين المنتخبين.

القمم الاقتصادية.. إدارة العالم بالأرقام
 

مؤتمرات مثل مجموعة السبع (G7) أو مجموعة العشرين (G20) كثيرًا ما يُنظر إليها باعتبارها اجتماعات "المديرين التنفيذيين" للعالم، هناك تُرسم سياسات الاقتصاد، أسعار الطاقة، وحتى توجهات التجارة العالمية، هذه اللقاءات تُعقد خلف حراسة مشددة، ولا يعرف المواطن العادي سوى البيانات الرسمية العامة، بينما القرارات الحقيقية قد تؤثر في جيبه وفي لقمة عيشه.

بين الحقيقة والخيال.. نظريات المؤامرة
 

الإعلام والسينما غذّيا الصورة أكثر، أفلام هوليوود تحدثت عن منظمات سرية تدير العالم من وراء الستار، نظريات المؤامرة تضيف توابلها: "النظام العالمي الجديد"، "المحافل الماسونية"، أو "المنتدى الاقتصادي العالمي" الذي يصفه البعض بأنه "مقر خفي لمجلس إدارة الكوكب"، لكن معظم هذه التصورات تبقى بلا دليل موثق، أقرب إلى قراءة رمزية أو مبالغة، تعكس شعور الشعوب بالعجز أمام القرارات الكبرى التي تُتخذ دون مشاركتهم.

أمثلة من الواقع السياسي
 

الحرب في أوكرانيا (2022–الآن)

قرار استمرار الحرب أو وقفها ليس بيد كييف أو موسكو فقط، بل يخضع لاجتماعات بين واشنطن وبروكسل وبكين، العقوبات الاقتصادية، المساعدات العسكرية، ووقف تصدير الحبوب الأوكرانية كلها بدت كأنها "قرارات مجلس إدارة" توزع الخسائر والمكاسب عالميًا.

غزة (2023–2025)

في كل مرة يُطرح قرار في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، تسقطه الولايات المتحدة بالفيتو، هنا يظهر "مجلس إدارة العالم" بأوضح صوره: خمس دول تتحكم في حياة ملايين المدنيين.

الذكاء الاصطناعي (2023–2024):

اتفاقيات بين أمريكا وأوروبا والصين حول تطوير أو تقييد الذكاء الاصطناعي أثرت على شركات التكنولوجيا الناشئة في كل مكان، قرارات لم يجلس فيها ممثلون من أفريقيا أو الشرق الأوسط، لكن آثارها وصلت إلى أسواقهم ووظائف شبابهم.

أسعار الفائدة العالمية (قرارات الفيدرالي الأمريكي):

حين يرفع البنك الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة، يتأثر اقتصاد مصر والأرجنتين وتركيا، وترتفع كلفة الديون، قرار شخصي من "مجلس الإدارة المالي" في واشنطن يحدد مصير ملايين الأسر حول العالم.

شهادات من خبراء: أصوات تكشف حقيقة "مجلس إدارة العالم"

يصف الباحث جوزيب إم. كولومير (Josep M. Colomer) في دراسة له عن الحوكمة العالمية، القمم الاقتصادية الكبرى بأنها أقرب ما يكون إلى مجلس إدارة للكوكب: "إن نظام مجموعة الثماني هو أقرب شيء إلى حكومة عالمية على الإطلاق.. (كولمر، المؤسسات السياسية: الديمقراطية والاختيار الاجتماعي)، ونؤكد أن مجلس العلاقات الخارجية (CFR) في ورقة تعريفية عن مجموعة السبع (G7):.. "مجموعة السبع هي تجمع غير رسمي للديمقراطيات المتقدمة التي تجتمع سنويا لتنسيق السياسة الاقتصادية العالمية ومعالجة القضايا الأخرى العابرة للحدود الوطنية."(مجلس العلاقات الخارجية، 2024).


أما عن القرارات المالية التي تهز الاقتصادات الناشئة، فقد جاء في تحليل اقتصادي: "عندما يرفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة، فإن ذلك لا يؤثر فقط على المقترضين الأمريكيين... فهذه القرارات غالبا ما تؤدي إلى تدفقات رأس المال إلى الخارج من الاقتصادات الناشئة". (تحليل أديس – رويترز وصندوق النقد الدولي)
وحول الاجتماعات المغلقة للنخب الاقتصادية مثل دافوس، نشرت وكالة أسوشيتد برس (AP) تقريرًا بعنوان As elites arrive in Davos, conspiracy theories thrive online  قالت فيه : "إن خلق كل هذا النوع من الأشياء يمكن أن يولد أعداء يعتقد الناس أنهم مسؤولون عن أي شيء سيئ يحدث في العالم." (ا ف ب نيوز، 2023)
وأخيرًا، عن مجلس الأمن الدولي وهيمنة حق النقض (الفيتو)، تناولت تحليلات عدة مسألة أن خمس دول فقط تتحكم في قرارات تتعلق بالحروب والسلم: "تتزايد الدعوات لإصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مع تزايد استخدام حق النقض (الفيتو) لعرقلة القرارات، مما يقوض شرعيته". (تقارير الأمم المتحدة  - الجزيرة – وبى بى سى).


من جانبها تؤكد الدكتورة ليلى همامى أستاذة العلوم السياسية والمالية بجامعة لندن، والخبيرة السياسية التونسية، أنه لا يوجد تحول نوعي في مستوى الشكل الخاص بالنظام العالمي، خاصة أن العلاقة الدولية لا تزال محكومة بقطبين وهما  حرب عالمية ثانية أفرزت حلف فرصوفيا "وارسو" وأفرزت في المقابل العالم الحر، وكان الصراع صراعا أيدولوجيا بين منظومة اشتراكية ومنظومة رأسمالية.

الدكتورة ليلى همامى
الدكتورة ليلى همامى


وتضيف في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أنه بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، أفرزت ثنائية قطب رأس مالي "لا ديمقراطي" وقطب رأسمالي "ديمقراطي"، والقطب الأول تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ويمثل الاتحاد الأوروبي والبلدان التابعة، والقطب الثاني قطب الممانعة والمعارضة في العلاقات الدولية تشكله روسيا، والصين، وإيران، وكوريا الشمالية.


وتوضح أن الصراع تحول، من صراع ايدولوجي بين منظومتين وتصورين للعالم، إلى صراع نفعي رهانه السوق والاستثمار والهيمنة العسكرية، رهانه الطاقة ومصادر الطاقة كلاسيكية وجديدة، وبالتالي الصراع تغير في طبيعته، واتخذ شكلا من عدم الانسجام في معنى ما يسمى بالهندسة المتبدلة "variable geometry "، والتفاهمات أصبحت ممكنة بين القوى المتصارعة حول مناطق أو حول ملفات بعينها والصراع يستمر بصدد الملفات الأخرى.
وتشير إلى أن العرب لهم وضع استراتيجي متميز للغاية، خاصة أن الدول العربية لديها من الثروات ما يكفي، حيث لديهم رصيد بشري هام للغاية ومساحة بشرية اقتصادية تمثل سوقا هامة، وكذلك لديهم من النخب ما هو كاف لتحقيق نهضة شاملة وما زال لدينا وقت وهذا يتطلب العمل المشترك.


وتؤكد أن العرب يمكنهم إعادة التشكل كقوة كبرى خارج سياق الهيمنة ثم الاستفادة من هذا التناقض العالمي، الاستفادة من هذه المنافسة، ولديهم موقع يؤهلهم لأن يكونون قوة ثالثة بين هذين القطبين، وذلك من المعطيات الجيواستراتيجية والتراث والتاريخ، وكذلك من معطيات القوة العسكرية، حتى وإن كانت هذه القوة أدنى من الردع النووي إلا أنهم يمتلكون ما يكفي من أسباب القوة لكي يكونوا رقما ثالثا.

 

كتب وتحليلات وأعمال فنية

 Giants: The Global Power Elite – Peter Phillips هذا الكتاب يحلل "النخبة العالمية" (elites) اللي بتحكم الكثير من السياسات والاقتصاد العالمي، كما يقدّم بيانات عن كم من الشركات الاستثمارية الكبرى اللي بتحكم أصول ضخمة، وكيف تأثيرها يمتد إلى الدول النامية.


وهناك  مراجعة أكاديمية بعنوان “Giants: The Global Power Elite, by Peter Phillips (Book Review)” من Alexander A. Vadilyev في مجلة Economic Record عام 2024، توضح كيف أن الكتاب يتابع أثر هذه النخبة عبر مؤسسات دولية وسياسات اقتصادية متعددة.

HyperNormalisation (2016) – من إخراج آدم كورتس
 

 وثائقي منتج من BBC يناقش كيف الحكومات والنخب المالية منذ السبعينات قدّمت روايات مبسطة، أو "عالم زائف" (constructed reality) بدلاً من مواجهة التعقيد الحقيقي، وكيف هذا النموذج أثر على السياسات والشعوب.
 تحليل من مدونة OUP (Oxford University Press) بعنوان The nothingness of hyper-normalisation يوضح كيف الوثائقي بيستخدم وسائط الإعلام والتاريخ لإظهار فكرة القوة الغامضة أو السيطرة الرمزية للنخب.

من جانبه يؤكد رضوان جخا الخبير السياسي المغربي، أنه بعد أحداث انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي، وبداية تشكل القطب الواحد للولايات المتحدة الأمريكية عوضا عن نظام القطبيتين، شهد العالم تغيرات جيواستراتيجية كبيرة رسمت عبرها واشنطن ملامح الخريطة الدولية في شتى بقاع العالم، لكن بدأت تطفوا على السطح بداية تشكل قطبية جديدة بقيادة الصين الشعبية بشكل هادئ خصوصا مع قمم منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) التي تعرف مشاركة عشرين دولة حول العالم خصوصا مع التقارب الكبير بين دول مؤثرة كالصين والهند وروسيا.

رضوان جخا المحلل السياسي المغربي
رضوان جخا المحلل السياسي المغربي

 

ويضيف في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن التنين الصيني يسير بخطوات ثابتة وبشكل هادئ لتشكيل قطبية سياسية جديدة تنافس دولة العم سام، حيث بدأ يشهد هذا التنافس حدته في المجال الاقتصادي والتكنولوجي، بجانب تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أبدى بشكل غير مباشر انزعاجه من التقارب الصيني_ الروسي_الهندي وهي كلها أقطاب نووية .

ويشير إلى أن تشكل قطبية جديدة تنافس الولايات المتحدة الأمريكية يحتاج وقتا استراتيجيا خصوصا مع القوة الأمريكية في شتى المجالات، عسكريا، واقتصاديا، ودبلوماسيا، وهذا ما تؤكده الأحداث الدولية الحالية، فلا مكان في العالم إلا وتجد فيه بصمة أمريكية مؤثرة جدا عكس الصين التي لا نرى أثر لها إلا في شرق آسيا وأحيانا أفريقيا عبر مبادرة الحزام والطريق وأمريكا الجنوبية.

ويوضح "جخا"، أن الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة ترامب لها دور موثر للغاية للعمل على إيقاف الحرب الروسية الأوكرانية عبر القمة التي جمعت ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا الأمريكية، وكذلك التأثير القوي للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط وملفاته المعقدة، لافتا إلى أن الدولة الوحيدة عالميا القادرة على الضغط على حكومة إسرائيل لوقف الحرب بقطاع غزة هي إدارة ترامب، دون نسيان تأثيرها على دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا.

ويؤكد أن هناك قوة تأثير للولايات المتحدة الأمريكية في حلحلة الصراع الهندي الباكستاني بكشمير، بجانب التأثير الأمريكي الذي يساهم أيضا في إنهاء النزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية بشمال إفريقيا والذي عمر زهاء الخمسين سنة، بجانب قوة تأثير الولايات المتحدة الأمريكية بدهاليز الأمم المتحدة واضحة بشكل جلي، ما يعني أن القطبية الواحدة للعالم مازالت قائمة، لكن ليس بنفس تأثير العقد الأخير، بل هناك بداية ظهور قطب جديد يمكن أن يتطور خلال الثلاث عقود المقبلة يتعلق الأمر بالصين وروسيا والهند لكي تنافس الولايات المتحدة الأمريكية في رسم خريطة السياسات الدولية.
  ويوضح "جخا"، أن هناك مجموعات ضغط بمعنى لوبيات قوية تؤثر في رسم خريطة السياسات الدولية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك بالصين روسيا والاتحاد الأوروبي التي يحاول من خلال كل تكتل تغيير موازين القوى نحوه، متابعا :" في الولايات المتحدة الأمريكية أقوى دولة في العالم اقتصاديا وعسكريا وسياسيا لها مجموعات الضغط تؤثر في قرارات السياسات الخارجية بالخصوص على غرار اللوبي الإسرائيلي له تأثير قوي على سياسات الحكومة الأمريكية وهذا ما نستشفه بشكل ملحوظ من خلال الدعم الأمريكي القوي للحكومة الإسرائيلية على غرار الإشهار للمرة الرابعة بورقة الفيتو لوقف إطلاق النار بقطاع غزة بفلسطين".
 ويشير إلى أن هذا نموذج من نماذج تأثير اللوبي الإسرائيلي على رسم السياسات الخارجية الأمريكية ، هذا دون نسيان التأثير الإقتصادي مع اللوبي الاقتصادي للشركات متعددة الجنسيات التي تمتلك أسهما كبيرة في مختلف الاستثمارات .

مجلس إدارة العالم في الحكايات والأساطير

يقولون إن العالم تحكمه حكومة خفية. في البداية كانت الحكاية عن نخبة من الساسة والاقتصاديين الكبار يجتمعون خلف أبواب مغلقة ليقرروا مصير الشعوب. لكن مع مرور الزمن، أخذت الخرافة تلتف حول هذه الفكرة مثل نبات متسلق، حتى لم يعد الناس يكتفون بحديث السياسة والمال، بل نسجوا حولها أساطير أشبه بأفلام الخيال العلمي.
الماسونية
أشهر ما ارتبط بهذه الفكرة هو اسم الماسونية. فبينما يراها بعض الباحثين مجرد تنظيم اجتماعي قديم، تحولت في المخيلة الشعبية إلى "مجلس إدارة العالم" الحقيقي؛ رجال يرتدون عباءات سوداء، يجلسون تحت الأهرام، وأمامهم طاولات مرصعة بالرموز السرية. العين التي ترى كل شيء، والمثلث المضيء، والشعارات الغامضة، كلها علامات قيل إنها رسائل مبعثرة من المجلس الخفي للبشرية.

الريبتليانز

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. في تسعينيات القرن الماضي، خرج الكاتب البريطاني ديفيد آيك ليعلن أن حكام الأرض ليسوا بشرًا على الإطلاق، بل كائنات زاحفة متخفية في هيئة ملوك ورؤساء. أطلق عليهم اسم "الريبتليانز". تخيل ملايين الناس وهم يتداولون هذه الفكرة: أن ابتسامة رئيس أو خطاب ملكي ما هو إلا قناع فوق وجه غريب من عالم آخر.
الأنوناكي.

ولم يغب الماضي عن هذه الحكايات. فهناك من عاد إلى أساطير سومر القديمة، ليتحدث عن الأنوناكي، الكائنات التي هبطت من السماء لتُعلِّم الإنسان الزراعة والكتابة، ثم عادت لترسم خريطة السلطة. بعضهم قال إن الأنوناكي لم يرحلوا أصلًا، بل استمروا في إدارة العالم من وراء ستار، يورّثون حكمه عبر سلالات مختارة.
المتنورين.


وفي القرن العشرين، غذّى الفن هذه الأساطير. أفلام مثل The Matrix وكتب وروايات عن "المتنورين" و"المتحكمين بالعقول" جعلت الناس تتساءل: هل نحن نعيش واقعًا مُختلقًا تديره قوة لا نراها؟ وهكذا اندمج الخيال بالواقع، وتحولت فكرة "مجلس إدارة العالم" من تحليل سياسي إلى ملحمة أسطورية يصدقها البعض كما يصدق نشرة الأخبار.
مجلس إدارة العالم من الكتب إلى شاشات السينما.

من الكتب إلى شاشات السينما، لم تترك الثقافة الشعبية فكرة "مجلس إدارة العالم" تمر مرور الكرام. بل على العكس، تحولت إلى مادة خام تُعاد صياغتها في روايات مثيرة وأفلام ضخمة.

في الأدب الغربي، انتشرت روايات مثل شيفرة دافنشي لدان براون، التي جعلت القراء يعيشون داخل عوالم غامضة تحكمها جماعات سرية، ورموز مخفية في لوحات وكنائس، وتاريخ موازٍ للعالم نعرفه. ومع كل صفحة، كان القارئ يشعر أنه يقترب أكثر من قلب المجلس السري الذي يُدير البشرية.

أما السينما، فقدمت لنا أعمالًا أيقونية مثل The Matrix، حيث يعيش البشر في واقع مزيف تسيطر عليه عقول آلية، والناس مجرد دُمى لا تدرك أنها مسلوبة الإرادة. كان الفيلم بمثابة تجسيد بصري لما تخيلته الأساطير: أن هناك قوة غير مرئية تمسك بالخيوط وتُحدد حتى أحلامنا الصغيرة.

ولم يغب الحديث عن الماسونية والمتنورين في الأفلام الوثائقية وشبه الوثائقية، حيث ظهرت عشرات الأعمال التي تتحدث عن "Illuminati" وكأنهم شبكة عالمية تمتد من قصور الرؤساء إلى استوديوهات هوليوود. كل إشارة في فيديو موسيقي أو حركة يد غامضة لمغنٍ شهير، كانت تتحول إلى "دليل" على وجود المجلس الخفي.

المسلسلات أيضًا لعبت دورها. في أعمال مثل The X-Files، ظهر "المكتب المظلم" الذي يقرر مصير الأرض في مواجهة الكائنات الفضائية، لتترسخ الفكرة أن وراء الحكومات دائمًا قوة أكبر وأخطر.

وهكذا، لم تعد نظرية "مجلس إدارة العالم" مجرد كلام يتناقله الناس، بل تحولت إلى مادة إبداعية، نُسجت حولها عوالم كاملة من الغموض والتشويق. حتى صار القارئ أو المشاهد يخرج من القاعة وهو يتساءل: هل ما شاهدته خيال محض؟ أم نافذة صغيرة كُشف عنها الستار؟.

وتوضح الدكتورة تمارا برو الخبيرة في الشئون الآسيوية، أن الحدثين اللذان عقدا في الصين من قمة شنجهاي والعرض العسكري وحضور الرئيس الروسي ورئيس وزراء الهند والزعيم الكوري الشمالي، أثارا قلق الولايات المتحدة الأمريكية حتى أن الرئيس ترامب اتهم بكين وموسكو وبيونج يانج بالتآمر على واشنطن.

الدكتورة تمارا برو
الدكتورة تمارا برو

 

وتؤكد الخبيرة في الشئون الآسيوية، في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أنه لدى الولايات المتحدة قلق من أن هذه الدول تعمل على تغيير النظام العالمي، خاصة أن العالم الآن يعيش في نظام أحادي القطب تسيطر عليه واشنطن لكن هناك جهود لاسيما من الصين وروسيا لإنشاء عالم تعدد الأقطاب يقوم على مبادئ الإنصاف والعدالة ومبادئ الأمم المتحدة.

وتقول تمارا برو، إنه حتى اليوم لا يمكن القول بأن العالم بدأ يعيش على نظام متعدد الأقطاب بل لا زال العالم أحادي القطب تسيطر عليه الولايات المتحدة، التي تسيطر على العالم ولكن سياسات ترامب الأخير بفرض رسوم جمركية والسماح لإسرائيل بممارسة انتهاكاتها وعدم اتخاذه أي إجراءات في منع إسرائيل من هجومها على قطر واغتيال قيادات حماس بالإضافة إلى الضغوطات التي تمارسها واشنطن على العديد من دول العالم تساهم في إبعاد الدول عن أمريكا.

وتشير إلى أن الرسوم الجمركية المفروضة على الهند أبعدت نيودلهي عن واشنطن وقربتها أكثر من موسكو وبكين، بجانب وجود غضب من قبل بعض الدول العربية على الولايات المتحدة لأنها لم تمنع إسرائيل من هجومها على قطر، متابعة أن الولايات المتحدة ستحاول استرضاء الدوحة بتسريع عمليات الاتفاق على الدفاع المشترك بين البلدين.

وتضيف :"نتجه نحو عالم متعدد الأقطاب لكن هذا العالم يحتاج لوقت كي يتشكل"، لافتة إلى أنه إذا استمرت سياسة واشنطن بالضغوطات على الصين وروسيا فهذه الضغوطات ستقرب هذين البلدين من بعضها البعض أكثر فأكثر، والعديد من الدول الأخرى التي تنتقد سياسة ترامب وتتأذى منها وستقف بجانب بكين وموسكو ضد السياسات الأمريكية.

وتؤكد أن هذه الدول الغاضبة من سياسات ترامب ستعمل على التخلي عن الدولار وهذا يحتاج إلى الوقت وكل شيء يتوقف على سياسة واشنطن، خاصة أن الرئيس الأمريكي يعمل حاليا إبعاد الصين عن روسيا ويتقرب من موسكو لإبعادها عن بكين وكذلك يتقرب من الصين لإبعادها عن روسيا.

وتوضح تمارا برو، أن هناك قلق أمريكي من الصين ولا زالت الولايات المتحدة الأمريكية مترددة حتى الآن من فرض أية رسوم على بكين بسبب شرائها النفط الروسي، وبالتالي يعمل ترامب على الدفع بالاتحاد الأوروبي ليفرض رسوم جمركية كي لا تتحمل واشنطن غضب بكين التي يمكن أن تستخدم ورقة الضغط المتمثلة في المعادن الأرضية النادرة وتقييد تصديرها للخارج وهذا يلحق ضررا بالولايات المتحدة والدول الأوروبية.

 

مجلس إدارة العالم الحقيقي؟

إذا بحثنا بموضوعية، سنجد أن "مجلس إدارة العالم" ليس هيئة سرية لها مكاتب وخطط مكتوبة، بل هو شبكة من القوى المتداخلة، حيث دول كبرى تملك السلاح والمال، وشركات تكنولوجية تسيطر على البيانات والعقول، ومؤسسات مالية تحدد مصير العملات والاستثمارات، وتحالفات سياسية واقتصادية تُدار خلف الكواليس.

ويوضح محمد حامد، مدير منتدى شرق المتوسط للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، أن هناك سياسة استقطاب حاليا بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية ويزداد هذا الاستقطاب بقوة نتيجة لسياسات الرئيس ترامب الذي فرض رسوم على بكين ويدعو لفرض رسوم على الهند.

ويشير في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن قمة شنجهاي شهدت ولادة تحالف المصالح يجمع بين الصين وكوريا الشمالية والاتحاد الروسي والهند لمواجهة الممارسات الأمريكية الخاصة بفرض الرسوم والتهديدات بورقة العقوبات ضد دول آسيوية حليفة الولايات المتحدة الأمريكية مثل الهند.

محمد حامد الخبير السياسي
محمد حامد الخبير السياسي


ويؤكد مدير منتدى شرق المتوسط للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة،  أن هناك استقطاب متزايد بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية من جهة لأسباب اقتصادية، والاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي من جهة أخرى نتيجة استمرار العمليات العسكرية الروسية في اوكرانيا واختراق القوات الجوية الروسية لأجواء بولندا.

ويضيف "حماد"، أن الصين الآن تكشر عن أنيابها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية في مواجهة محاولات التهميش الغربي لها من الساحة الدولية أو خلق اختلال في الموازين الدولية بتقليل النفوذ والتواجد الصيني في الساحة الدولية.

ويؤكد محمد حامد، أن هناك عائلات تتحكم في اقتصاد العالم والاقتصاد يحكم السياسة والمصالح هي من تحكم السياسة، وهذا يؤثر على صنع القرارات في المنطقة العربية ودول العالم النامي، وأصبح وراء كل ملف اقتصاد شركات متعددة الجنسيات كبرى وتحالفات اقتصادية كبرى تهدف إلى دخول الأسواق في كل الدول، خاصة الدول ذات العدد السكاني الكبير ويدخلون في كافة الملفات مثل الطاقة المتجددة والنظيفة وإعادة تدوير المياه والاقتصاد الأخضر والاقتصاد البيئي والتنمية المستدامة فالاقتصاد يحرك كل هذه السياسات ويشكل تحالفات بين الدول حول العالم .

"مجلس إدارة العالم" ليس اسمًا على ورق، لكنه حقيقة مجازية تصف توازن القوى الذي يجعل قلة قليلة تتحكم في مصير مليارات البشر، ما بين قاعات مجلس الأمن، وأبراج نيويورك المالية، ومراكز القرار في واشنطن وبكين وموسكو، يُرسم مستقبل العالم وكأنه مشروع تجاري كبير تُحدد ميزانيته وأولوياته بعيدًا عن الشعوب.

ويؤكد الدكتور عمرو حسين، الخبير في الشئون الدولية، أن الاقتصاد لم يعد مجرد أداة للسياسة، بل أصبح هو من يصنع السياسة ويحدد مصير الدول، لافتا إلى أن فهم من يدير العالم اليوم لم يعد مسألة نظرية أو تخمينات مبنية على الأساطير أو الخيال، بل أصبح أمرًا يمكن تحليله علميًا وواقعيًا بناء على معطيات الاقتصاد والسياسة والمصالح العابرة للحدود.

ويضيف في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن من يحكم العالم فعليًا اليوم ليس الحكومات أو الزعامات السياسية، وإنما منظومات اقتصادية متشابكة، تضم شركات متعددة الجنسيات، ومؤسسات مالية كبرى، ومجموعات ضغط تملك القدرة على توجيه السياسات الدولية، سواء في العلن أو من خلف الكواليس.

ويقول "حسين": "نحن اليوم أمام مشهد عالمي لا تتحكم فيه نظريات المؤامرة بالمعنى التقليدي الذي يتحدث عن جماعات خفية أو قوى خارقة، بل أمام واقع واضح المعالم وهو من يملك المال والتكنولوجيا والإعلام، يملك القدرة على توجيه القرار السياسي، بل وصناعة الأزمات والحروب أحيانًا، إذا اقتضت مصالحه ذلك."

ويوضح أن كثيرًا من الناس يقعون في فخ اختزال المشهد العالمي في أطراف مثل "الماسونية" أو "الصهيونية العالمية" أو حتى "كائنات فضائية" أو "نخبة سرية تحكم العالم"، وهذا تبسيط مخل للواقع، ويخدم في بعض الأحيان تلك القوى الحقيقية ذاتها، لأنها تستفيد من تشتيت الوعي العام بعيدًا عن مصدر النفوذ الحقيقي: الاقتصاد العابر للقارات.

ويتابع:"عندما ننظر إلى السياسات الخارجية لدول كبرى مثل الولايات المتحدة، نرى بوضوح أن من يدفع باتجاه اتخاذ قرارات الحرب أو السلم أو العقوبات الاقتصادية، هي مصالح شركات السلاح، وشركات الطاقة، واللوبيات القوية مثل لوبي الصناعات الدوائية أو التكنولوجيا أو حتى الزراعة، وشركات مثل "لوكهيد مارتن" و"إكسون موبيل" و"فايزر" و"ميتا" و"جوجل" لديها تأثير فعلي على السياسات أكثر مما لدى كثير من البرلمانات أو الأحزاب."

ويشير إلى أن هذا التأثير لا يتم فقط عبر تمويل الحملات الانتخابية أو الضغط عبر جماعات المصالح، بل عبر هيمنة هذه الشركات على أدوات تشكيل الرأي العام، وامتلاكها لقنوات الإعلام أو البيانات أو البنية التحتية التكنولوجية، وهو ما يجعلها تتحكم في السردية التي تصل إلى الشعوب، بل وتؤثر في اتخاذ القرار السياسي نفسه.

ويقول حسين: "العالم اليوم تحكمه شبكة من المصالح الكبرى، تتجاوز الحدود الجغرافية والولاءات القومية. هناك شركات تبلغ ميزانياتها أكثر من ميزانيات دول كاملة، ووهناك رؤساء مجالس إدارات يتم استقبالهم في بعض الدول كما يُستقبل رؤساء الدول، لأن تأثيرهم الاستراتيجي أكبر وأعمق."

ويؤكد أن ما يُطلق عليه "النظام العالمي الجديد" ليس بالضرورة مؤامرة سرية، بل هو نتيجة طبيعية لتحول القوة من يد الدولة إلى يد السوق، هذا التحول بدأ منذ عقود، وتسارع مع العولمة، وتضاعف تأثيره بعد صعود التكنولوجيا الرقمية، خاصة أن العالم الآن محكوم بمن يسيطر على سلاسل الإمداد، وشبكات الإنترنت، وأسواق المال، والطاقة، والغذاء.

ويؤكد أن دور الحكومات اليوم بات في كثير من الأحيان تنفيذ سياسات تمليها ضرورات السوق، أو التوازنات الدولية التي تحكمها المصالح الاقتصادية، لا المبادئ أو الأيديولوجيات، مثل تعامل الغرب مع قضايا حقوق الإنسان، الذي يختلف جذريًا بحسب مصلحة الشركات والدول، وليس على أساس القيم.

ويشير إلى أن بعض الروايات التي تتحدث عن سيطرة الماسونية أو الصهيونية العالمية أو غيرها من الجماعات على العالم، تميل إلى تضخيم الأدوار الرمزية، وتجاهل البنى الواقعية للقوة، وهناك تأثيرات أيديولوجية وثقافية، ولكن التأثير الأهم والأخطر يأتي من القدرة على التأثير في القرار الاقتصادي، الإعلامي، والتكنولوجي، وهذه هي القوى التي ترسم السياسات، وتخلق الأزمات، وتعيد ترتيب العالم حسب مصالحها.

ويتابع: "ما نحتاج إليه اليوم هو وعي جماعي جديد، يفهم من يتحكم فعلًا في مفاصل العالم، ويعيد تعريف مفاهيم السيادة والاستقلال، لأن استقلال الدول لم يعد يقاس فقط بامتلاك الجيوش أو الموارد، بل بالقدرة على مقاومة هيمنة الشركات الكبرى، والاستقلال في القرار الاقتصادي والإعلامي، وهذا هو التحدي الحقيقي في القرن الحادي والعشرين."

 

باسم عمرو حسين الباحث السياسي
باسم عمرو حسين الباحث السياسي

 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة