هذا الرجل أحسده عاش مع معظم من أحببتهم، قابلهم وجلس معهم وتعلم منهم، لكنه منحنى هذا الشرف، وحقق لى تلك الأمنية بأن أسهر مع أحد هؤلاء الأحبة، عمار الشريعى الذى استطاع بنغمات صافية وطريقة أداء شجية، وتمكن نادر من الكلمة والمقام والمعنى أن يحتل وجدانى ويصير عرابًا لبوصلتى الوطنية حينًا، وآهاتى العاطفية حينًا آخر.
هذا الرجل هو الكاتب الكبير سعيد الشحات الأستاذ الكبير فى "شغلانة الصحافة" والمرجع الموثوق للفن والتاريخ والشجن، الذى أهدانا كتابه الجديد "عمار الشريعي.. سيرة ملهمة" فسهرت معه ليلة رائقة، ضحكت كثيرًا، وتألمت كثيرًا، واقتربت من روح الفنان والإنسان "عمار الشريعى" كأنى أراه، أو كأنه يراني.

بروح المحقق المدقق الدؤوب المتشكك، وبقلم الروائى، الذى يجيد رسم الزمان والمكان والأحوال والأفعال، وبعين السيناريست الذى يختار المشهد بعناية فائقة فلا يؤخر فعلًا ولا يقدم موقفًا، يمضى سعيد الشحات فى رسم السيرة الإنسانية والفنية لعمار الشريعى، ولحظة شعرت بأن عمار الشريعى يجلس معى يسمع ويبتسم، ثم يقرأ هو فأسمع الكلمات بصوته.
فى الصفحات الأولى نجح سعيد الشحات فى رسم صورة كاملة لعمار الشريعى، الذى استقبله ذات يوم وهو يرتدي الجلابية "نص كم" ثم استأذنه فى أن يتابع عمل "فني الريسيفر" الذى يضبط له قنوات التليفزيون، وكان عمار يوجهه كما لو كان مبصرًا، سرعان ما دلف إلى عالم طفولة عمار الشريعي المليء بالكوميديا والأسى، طفل ولد أعمى، لكنه رفض الانصياع إلى إعاقته الدائمة بشقاوة غير معتادة.
سعيد الشحات يكتب بانسياب ورشاقة، بلغة لا تزيين فيها ولا ترهل، فتستطيع أن ترى عمار الشريعي عبر الصفحات، متنقلًا بين بيوت قريته وكتابها، كما تستطيع أن تراه عائمًا في الترعة حينًا، ومتسلقًا على الشجرة حينًا، خفيفًا لطيفًا مرحًا ومبتكرًا، تمامًا كتكنيك عزفه المتفرد على آلة العود التي يُعد أحد أهم أساتذتها، وواحدًا من القلائل الذين استطاعوا أن يصلوا إلى روح الآلة، ليجبرها على منحه أسرارها فتتشكل شخصية عزفه التي لا تخطئها الأذن.
هل سمعت عن ذلك القروى الذى كان يرد السلام على المذيع في التليفزيون؟ عمار فعل أكثر من ذلك، كان الطفل عمار الشريعي يفتح الجانب الخلفي من ظهر الراديو ويخرج أسلاكه ومكوناته ليسلم على شادية التي كان يتخيل أنها داخل الراديو جالسة ومربعة تشرب الشاي ثم تقوم
لتغني أغنيتها، وقد أورثته تلك الواقعة حبًا كبيرًا لشادية، وربما ربطت مصيره بها، وقال القدر كلمته حينما انطلق عمار الشريعي فلحن لها أغنية "أقوى من الزمان"، فكانت خير انطلاقة له وفاتحة الخير عليه.
وذكر "الشحات" في كتابه الممتع روايتين لقصة الأغنية، إحداهما على لسان الشاعر مصطفى الضمرانى الذى يكاد يقسم على صحة ما يرويه فيقول إن شادية استدعته وقالت له إنها أعجبت بكلمات أغنية "ما تقولش إيه ادتنا مصر" التي غنتها "علية التونسية" ولحنها حلمي بكر، وإنها تريد أن تقدم عمار الشريعي كملحن لأغنية وطنية من تأليفه، ثم كانت الأغنية.
بينما يقول عمار الشريعي إنه قال للضمراني: "أريد تقديم كلمات جديدة تحمل معاني جديدة"، فرد: "اللي عايز الجديد يدور عليه"، فتذكر عمار قصيدة للشاعر الفرنسي "لامارتين" يقول فيها: "إن كل الأشياء تتغير وتتبدل إلا الوطن، يظل طفلًا رقيقًا تحبه"، وقال له إنه يريد أغنية تحمل هذا المعنى، فكتب الضمراني أغنية ثم لحنها عمار، ثم عرض الشاعر أن يذهب بالأغنية إلى شادية، فرفض عمار لأنه خشي من أن ترفضها وهي التي يحمل لها كل محبة، فأخذ هو الشريط وأسمعه لشادية التي رحبت بالأغنية، وبرغم أن الشحات يذكر الروايتين دون أن يعلق عليهما، فإن وضع هاتين الروايتين بهذا الشكل يوحي بالطبع بصدق رواية عمار، برغم أن رواية الضمراني ترفع منه وتظهره في ثوب الملحن الموهوب الذي تبحث عنه النجمات.
يُظهر الكتاب بصورة جلية بارزة ما كان يتمتع به عمار الشريعي من صدق وتواضع، ومن خلال الأحاديث الشخصية التي أدلى بها الشريعي إلى الشحات، يذكر قصة تفضيل الشريعي لألحان عبد الوهاب على ألحان سيد درويش، ويقول إنه لولا عبد الوهاب لظل معتقدًا أن سيد درويش أخذ أكثر من حقه في التاريخ الموسيقي، ويقول إنه حينما قال للموسيقار محمد عبد الوهاب هذا الرأي، قال له دون مواربة: "بطل عبط"، ثم أخذ العود وأخذ يغني من ألحان سيد درويش ليريه عبقرية سيد درويش، فاستمر عمار في عناده زاعمًا أن صوت عبد الوهاب وأدائه هما ما أضاف للحن، وهنا أجبره عبد الوهاب على أن يمسك هو بالعود ويعزف، فاكتشف ما باللحن من عبقرية. وكانت هذه الواقعة بداية جديدة لعمار الشريعي في اكتشاف عظمة سيد درويش وقدرته الفذة. كما يذكر عمار في الكتاب فضل كمال الطويل عليه، الذي يرفعه إلى درجة الأبوة، دون مواربة لواقعة اعتزامه الاعتزال بعد نجاح أغنية جمال سلامة وفشل أغنيته. ويقول إن كمال الطويل هو الذي أنقذه ودفعه إلى تغيير رأيه ومنحه ثقة كبيرة في نفسه.
وبطريقته الحكائية الدافئة يبحر بنا سعيد الشحات في كتابه إلى ذكريات طفولة عمار الشريعي، ليظهر كيف أثرت نشأته في تنمية حسه الإبداعي وإجباره على الاستعاضة بالألحان عما فاته من مشاهدة الحياة والألوان، مبرزًا دور الأم التي كانت تغني لعمار كثيرًا، ربما لأنها أرادت أن تمنحه تعويضًا مناسبًا لبريق عينيه المفتقد، أو ربما لأنها وجدته منحازًا فطريًا للألحان والكلمات. فكانت تنشد له "العدودة" التي تنشدها السيدات في المآتم، فيبكي، وحينما كانت تغني له أغنيات الأفراح يبتهج ويضحك. هكذا عرف الشريعي بفطرته الفرق بين الحزن والفرح، وهكذا تعلم أن يخاطب القلب وحده وأن تكون النغمات خير رسول للمشاعر، بينما يقول عمار في استدعاء صورة أمه: "لمْ أتذكَّر البكاء ولا الفرح، ولكني أذكر جلساتي في حجرها، والإيقاع على ظهري"، وهو ما يظهر بشكل جلي هذه الأجواء الدافئة التي حفرت للموسيقى في قلبه واديًا.
كما يسرد الشحات في كتابه البديع الكثير من المشارب التي غذت روح عمار الشريعي وجعلت منه موسيقيًا نابغًا بطريقة فطرية بسيطة، لتوحي لنا بما تفعله البساطة في الروح، فيسهب في ذكر غرام عمار الشريعي بغناء الموالد والغجر، ليظهر لنا انضباط بوصلته على كل ما ينمي روحه الموسيقية، فيشرح تأثير غناء الغجر أو "الحلب" كما كان يُطلق عليهم قديمًا. فيقول إنه كان يتتبعهم في مولد "سيدي عبدالملك" بجوار بلدنا، بل إنه يذكر حتى أسماءهم ومنشأهم وأغنياتهم، فيقول: “كانوا من الغَجَر الذين يأتي معظمهم من الصعيد. أذكر "صباح" و"عمي فتحي"، وكانا من "أبو تشت - قنا"، وأذكر "نعيمة" وأغنيتها المحفورة في ذاكرتي حتى الآن.
ولأن الموهبة الفطرية كان لا بد لها أن تُصقل، يسرد سعيد الشحات كيف أثرت مدرسة المكفوفين في تنشئة عمار الشريعي. وفيها تعلم الموسيقى، ليرسم بقلمه صورة حية لعصر كانت تُرعى فيه المواهب وتُنمى بعيون خبيرة ودأب محترف قبل ثورة يوليو. فيقول إن المدرسة التي كان يتعلم فيها كانت خاضعة لـ”النقطة الرابعة”. والنقطة الرابعة، لمن لا يعرفها، كانت منظمة أهلية تابعة للحكومة الأمريكية تسهم في المشاريع التنموية والتثقيفية في بلدان العالم الثالث. ثم يسرد الحال بعد انتقال تبعية هذه المدرسة للحكومة المصرية فيقول: “كانت مدرسة المكفوفين الوحيدة في مصر، ووقت تبعيتها للنقطة الرابعة كنَّا في حالة هنا وسرور، نشرب شايًا في فناجين ونأكل كيك، ويعملوا حفلة سنوية لنا بالجامعة الأمريكية نعرض فيها نشاطنا في الغناء والعزف. واختلف الحال بعد أن أصبحت المدرسة تابعة للحكومة المصرية، ولما تعرف إنها تابعة لوزارة الشئون الاجتماعية، لازم تعرف أنها كانت على فيض الكريم. وكمان لما تكون مدرسة للمكفوفين، فاعلم أنها ليست مدرسة لأبناء الفقراء، وإنما للأشد فقرًا، لأن الفقر والجهل سببان مؤكدان للعمى.ومع هذه المفارقة الكبيرة بين حال المدرسة وقت إشراف النقطة الرابعة وحالها وهي تابعة للحكومة المصرية، يستفيض عمار في ذكر محاسن عصر عبد الناصر وأثره الكبير في نفسه، وآثار التعليم التي حفرت في وجدانه.
يأخذنا سعيد الشحات في كتابه إلى زمن حبيب، نغني فيه مع عمار الشريعي ونسمع صوته، ونرى بأعين مبصرة كيف أشاع العائش في الظلام نورًا في قلوبنا، وكيف أسهم بقوة وصبر في تشكيل وجداننا. كما نرتحل معه وهو يلملم بدأب الأثري الحصيف ويغزل بتأنٍ وإتقان سيرة عمار الشريعي، وكأنه يقاوم أن “ينفرط من بين أيدينا الزمان”، ويجاهد في جمع ما تبقى من نغم ما زال عالقًا بآذاننا، متربعًا على قلوبنا. وفي النهاية قد لا يتاح للأجيال القادمة أن تعرف شيئًا عن حياة عمار الشريعي وذكرياته وصداقاته إلا من خلال هذا الكتاب الجميل. فلم يتبقَ من سيرة حياة القصبجي سوى كتاب المؤرخ الموسيقي محمود كامل، ولم يتبقَ من سيرة زكريا أحمد سوى كتاب صبري أبو المجد عنه. ولهذا أتوجه بالتحية الكبيرة للأستاذ الكبير سعيد الشحات على هذا المنجز المهم، كما أتوجه بالشكر للأستاذ حسين عثمان صاحب دار ريشة الذي تحمس لهذا المشروع وأنتجه ليضاف إلى إنتاج دار النشر المتميز. وغاية ما أتمنى أن تنتبه وزارة التربية والتعليم أو وزارة التضامن الاجتماعي إلى هذا المشروع، وأن تصدر طبعة خاصة من هذا الكتاب بطريقة برايل وتقرره على مدارس المكفوفين ليكون مثالًا ملهمًا ودافعًا في تحدي الظلام بالفن والحب والإخلاص.