يمكننا ببساطة اقتفاء فعل الفن هنا، كطيف يحتفي بالمرارة، يعيد تكوينها مبتعثًا من تلك المركزية لشخصية خولة، غريبٌ ذلك الأمر، أن تعنون نصك باسم بطلك، أن تهب كل تلك المركزية، حتمًا، هذه الشخصية تملك القدر الكافي من الشاعرية، والإفصاح عن فعل الفن كإعادة تصور لهامش ما، لتهبها الكاتبة بثينة العيسى تلك المركزية بروايتها الأحدث "دار خولة"، الصادرة حديثًا عن "منشورات تكوين"، منافيةً، بتلك المركزية المختلفة من الفن، هامشية الشخصية، التي تخلق ثنائية بين الشخصية وذاتها، بين شخصية شهيرة وعجوز وحيدة تربض الوحدة، ولتستقي الكاتبة مفهوم الوحدة مقترنًا بالهامش والشيخوخة بنصها تسلب المنزل هويته بالفصل الافتتاحي، تسرق رمزه، كأنها، بدهشة الفن المكررة، تنفي الرمز المعتاد للبيوت، باحثةً عن وحشة ما، ووحدة وما يشبه النفي ببيت شخصيتها، تخلق فضاءً دلاليًا ينفي المعتاد عن البيوت بجملتها السردية: وكان وجودهما في البناء نفسه-المدعو بالبيت- يملؤها بالمرارة".
ربما، يطرح النص مركزية "خولة"؛ لطرحها هي ذاتها مركزية لنفسها، نفيها لهامشها بنفيها أمومتها المعطلة، كعضو أنثوي يدل على الأنثى، كمختصر لها: تفقد مركزيتها يتعطل أمومتها، هكذا البنية الدرامية للنص توازي الفضاء الدلالي له مدركةً ذلك بدايةً من عتبة النص، وعنونته باسم "خولة"، التي تستعيد مركزيتها، روائيًا وواقعيًا، لاستعادتها الأمومة المعطلة، فتعود للظهور في برنامج تلفازي بعنوان "تفاصيل"، ذلك العنوان الذي يرمز لبنية النص ذاتها وأنثوية شخصيته، التفاصيل، تعود بالتزامن مع إقامتها عشاء عائلي يجمعها بأبناءها، الذين التهمتهم السلطة مع التهام الرأسمالية الأمريكية لها، وهنا يؤاخي النص بين مفهومي الزمن والهوية، الزمن كعضو غير فاعل بنص يتخلله جمود ظل معطل، ظل الأمومة المقترن، بشكل ما، كثنائية، مع الشهرة، سواء داخل البنية الدرامية حيث تقوم قطيعة بين الأم "خولة" وبكرها "ناصر"؛ لآراءها المثيرة للسخرية، أو حتى بالبحث عن الأنثى وهويتها بثنائية الخاص/العام، الهوية والزمن تتم مؤاخاتهم، فتنشب بين الأجيال ثنائيات عديدة، تبدأ ب"ناصر"، المتمرد على وجود الزمن، والمعارف بهويته كصبي، والهوية، ذاتها، تُعرف بالنص في محورين، أولهم مباشرة، وهي أحاديث "خولة" وآراءها المعلنة بالإعلام، والثانية هي المتن، كتواجد ناصر باعتباره متصابيًا، لا ينصاع لهوية الرجل الناضج، وكذلك هوية السلطة، سلطة الأخ الكبير، كذلك الهوية الدينية، المتمثلة، أحيانًا، بالرداء الأبيض، الذي يقمع الأخ الأصغر.
هذه الصراعات المؤاخاة كليًا بالهوية والزمن، والتي تفقد الأم أمومتها، أو مركزية وجودها، ككل، يبتعثها النص من فعل محاكاة، كأنه الفن ذاته، محاكاة حوض سمك تلتهم أسماكه بعضها، تؤكد بثينة العيسى فعل الاختزال هذا قائلةً بأول النص أن بطلتها لا تملك محيط، تملك حوض أسماك، أسماك نافقة كشخوصها.
الأمومة، كهوية معطلة بالضرورة هنا، تكاد تكشف، بطريقة معتادة للحرب، بعدين يمثلون ثنائية الخاص/العام، فثنائية الشرق والغرب، برؤية خاصة، والهامش/المركز، كرؤية عامة، والتي تقدم مع افتتاحية النص، تُقَدَم بعد ذلك كأطروحة للأمومة، كأن الهوية المعطلة للأمومة تقدم عزاءً للهوية المعطلة للغة والوطن، فتهتم "خولة" بالتسعينيات بتعليم ابنها تعليقًا أمريكيًا، ما يعارضه زوجها؛ لمنع فقدان ابنهم هويته العربية، ذلك يتبع الحرب، التي تمحي الهوية، تجعل أمريكا هي البلاد.. باستنطاق الهوية، يُكْشَف بعدين، يتماهوا، أحيانًا، فلا يصبح أحدهم خاصًا والآخر عامًا، بنفوا الثنائية، يتوحدوا، بين الهوية كمفهوم يمنحي مع الوقت، ربما في الشعر، اللغة، الوطن، الشعر الذي يمثل ذاتية الفن، بإزالة زوج "خولة"، أستاذ الأدب العربي، بإشارة واضحة لذلك المفهوم، لأسماء ك"ليلى"، ووضع خولة، وهكذا يعري ذلك البعد، بطريقة تنفي محض إشارة باستدراكها كنص موازي لم يكتب بعد، الأوساط الثقافية العربية، بالأحرى، العقل الثقافي العربي.. البعد الآخر هو فعل الأمومة المعطل، الذي يعطيه فكر الأم، ومحاربة العقل الجمعي لها، الأم التي تتحول أحياناً لسلطة أبوية، والتي تظل دائمًا أمومة لم تولد بعد، أمومة ابتعلها الرحم، هذه الأمومة تتعطل عندما تأتي سخرية المتلقين من فكرها، فنجد قمع الأنثى يتجلى عند غضب ابن "خولة" من خبر ظهورها في برنامج جديد، قائلًا أنه رأى سخرية أحد الناس منها في خبر القبض على نساء؛ لاقامتهم حلقة يوجا، كأن الأنوثة تتعطل بموت الأمومة..
بينما تتوارى البنية القصصية مخلدةً النص الروائي بتجريب تمارسه بثينة العيسى للمرة الأولى، أن تكتب رواية ببنية قصصية تحاكي فعل المائدة، مائدة الطعام التي تكشف شخوصها، كأنهم، بذواتهم المعلنة، محض زوار مائدة طعام، لا يملك النص، ببنيته القصصية، إلا أن يفصح عن جزء معين بهم، ذلك الجزء الذي يطرحونه على الطاولة، هكذا يعري النص العلاقات الإنسانية المكثفة لشخوصه، الذي يحاكي تكثيفها القصصي تكثيفها الفعلي، حيث علاقات مبتورة لأمومة لم تكتمل، أمومة لابن فاقد الهوية، والثاني يمارس السلطة، بالأحرى، السلطة الذكورية، والثالث متواري، يهمشه النص، ليظل يمارس فعل الاختفاء بتهميشه الروائي، فتتضح بالنهاية أن تلك الشخوص ما هي إلا زوار تستلقي للتعرية، رموز تمارس التصور الأول للرمز، للعلاقات الإنسانية ذات الفضاء الدلالي، كل شخصية تعبر عن مفهوم آخر متدثرين بتكثيف بنية قصصية تمنحهم، فقط، ما يحتاجونه، التعرية العلاقات الإنسانية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة