كانت الساعة التاسعة مساء 3 يونيو، مثل هذا اليوم، 1968، حين انفرج الستار عن سيدة الغناء العربى أم كلثوم، على مسرح قصر الرياضة فى المنزة بتونس، كان الحفل هو الثانى لها فى نفس المكان، وكان حفلها الأول يوم 31 مايو 1968، وذلك ضمن حفلاتها لدعم المجهود الحربى بعد هزيمة 5 يونيو 1967.
كان عدد المقاعد المقررة فى الحفل سبعة آلاف مقعد، لكن بسبب الضغط المضاعف على شراء التذاكر، لجأت وزارة الثقافة التونسية إلى زيادة عدد المقاعد ليصبح 10 آلاف مقعد حتى يستوعب المدرج من شدوا الرحال إلى تونس وجاءوا من جميع أنحاء المغرب العربى ليشهدوا الحفلة الثانية لأم كلثوم، حسبما يذكر الكاتب والباحث كريم جمال فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
يصف «جمال» أم كلثوم لحظة خروجها للجماهير من على المسرح، قائلا: «أطلت على الجماهير وهى ترتدى فستانا ذهبيا وتمسك فى يديها منديلا من ذات لون الفستان يزيد بهاء»، يضيف: «كان الحفل الثانى قصيدة وردية حروفها من نشوة وطرب، فكانت القصيدة هى الجماهير، وصاحبة القصيدة الوردية هى أم كلثوم كوكب العرب كما كانت تطلق عليها الصحافة التونسية طوال رحلتها إلى تونس».
قدمت أم كلثوم فى وصلتها الأولى أغنية «انت عمرى»، كلمات، أحمد شفيق كامل، وتلحين محمد عبدالوهاب، وأدتها للمرة الخامسة عشرة والأخيرة فى حياتها الغنائية خلال هذه الحفلة، وفقا لكريم جمال، مضيفا أنه ما إن أطلقت الإشارة الموسيقية الأولى حتى شدت بكلمات مذهب الأغنية، والجماهير تهتف وتزغرد، ويسلط «جمال» الضوء على أداء أم كلثوم، قائلا: «فى المقطع الثانى، وتحديدا عند جملة «كل فرحة اشتاقها من قبلك خيالى/ التقاها بنور عينيك قلبى وفكرى» اكتسب أداء أم كلثوم تعبيرية جعلت لكلمة «التقاها» أهمية داخل المقطع، وكانت تلك الكلمة هى ذروة المناجاة المفتوحة بينها وبين الجماهير طوال غناء المقطع، تلك المناجاة كانت تتبعها فى كل مرة عاصفة من التصفيق والآهات».
يذكر «جمال»، أن نشوة الطرب ارتفعت بأم كلثوم طوال الوصلة الأولى، وجادت بالتفاريد غير المتوقعة خاصة فى المقطع الثانى عند قولها «الليالى الحلوة والشوق والمحبة/ من زمان والقلب شايلهم عشانك»، يضيف: «يكشف التسجيل المرئى لتلك الحفلة مدى تجاوب الشابات التونسيات تحديدا مع غناء أم كلثوم، فكما كانت تنتف إحدى الفتيات شعرها طوال الحفل الأول، ظلت فتاة تصرخ طوال الحفل الثانى وهى تضرب نفسها فى حركة لا إرادية أثناء ارتجال أم كلثوم فى المقطع الثالث من «انت عمرى»، فكان ذلك التسجيل هو درة التسجيلات المحفوظة للقاء السحاب، حتى عندما تعثرت أم كلثوم فى مطلع المقطع الأخير من الأغنية ولم تسعفها ذاكرتها فى تذكر بعض الكلمات، وضع عازف الناى فى فرقتها سيد سالم آلة الناى على فخذيه وتأهب ليذكرها بكلام الأغنية، فجاء نسيانها يشع طربا، فأعادت المقطع، وأجادت وتفاعل التونسيون مع ذلك النسيان الذى ولد سلطنة غير مخطط لها، وما إن وصلت إلى نهاية الأغنية حتى لجأت إلى زخارف غنائية عجيبة لم تشهدها باقى التسجيلات الإذاعية والمصورة لهذه الأغنية».
أدت أم كلثوم «انت عمرى» فى 69 دقيقة، واستراحت بعدها، وزارتها السيدة وسيلة بورقيبة، وبعد ساعة تقريبا عادت لتقدم وصلتها الثانية، وكانت «بعيد عنك حياتى عذاب»، كلمات، مأمون الشناوى، وتلحين، بليغ حمدى، ويشرح «جمال» مدى التجلى الذى بلغته فى أداء هذه الأغنية، قائلا: «على غير عادتها استهلت الغناء بارتجال طويل، بعدما اندمجت مع مطلع الأغنية، وتحديدا عند جملة «نسيت النوم وأحلامه/ نسيت لياليه وأيامه»، فأعادت وأجادت فى التطريب وتلوين الكلمة، وإعطائها أبعادا جمالية جديدة تضاف إلى جمال وشجن اللحن الأصلى، وهو ما كان سابقة فى حياتها».
يضيف جمال: «فى المقطع الثالث من الأغنية، وعند الإعادة الثانية لذات المقطع، قدمت أم كلثوم صورة جديدة لكوبليه «افتكر لى لحظة حلوة عشنا فيها للهوى»، فعلى مدار ما يقرب من عشرين دقيقة كانت تصول وتجول داخل المقطع، وتؤسس لصيغة غنائية جديدة لأغنية «بعيد عنك» التى صادرت مع الوقت النسخة الأكمل والأجمل لتلك الرائعة، بالإضافة لكونها الأكثر رواجا بين السميعة الكبار».
يذكر «جمال»: «عند المقطع الأخير تجلت عبقرية أم كلثوم فى الأداء وتجسيد المعنى، فكان غناؤها لمقطع «والعمل؟ وإيه العمل؟»، ثم التحول بعاطفة وانكسار إلى سؤال «تحرمنى منك ليه؟ مثار إعجاب الجماهير، فقد ظلت تدور فى فلك هذا التساؤل الكلثومى قرابة ثمانى عشر دقيقة تقريبا»، ويؤكد جمال: «من يتأمل تسجيلات تلك الليلة التاريخية «3 يونيو 1968» يكتشف أن أداء أم كلثوم كان استثنائيا غير طبيعى، فمع كل نغمة أصلية فى الأغنيتين كانت هناك نغمة جديدة تضيفها من روحها».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة