بعد عام واحد من كارثة الاحتلال الإنجليزى لمصر عام 1882، حلت كارثة أخرى وهى انتشار وباء الكوليرا، وكان أحمد شفيق باشا، أحد شهودها من خلال وجوده فى معية الخديو توفيق، ثم أصبح فيما بعد رئيسا لديوان الخديو عباس الثانى، ويذكر فى الجزء الأول من مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن» أنه فى 22 يونيو، مثل هذا اليوم، 1882 «ظهرت الهيضة فى دمياط، وانتشرت فى سائر بلاد القطر، واختلفت الآراء فى حقيقة منشئها، فمنهم من قال إنها محلية، وهو رأى الإنجليز، ومن نحا نحوهم، ومنهم من قال إنها وافدة من الهند وهو الأصح، لأن التحقيق الرسمى أثبت أن أحد وقادى السفن الوافدة التى وصلت إلى بورسعيد آتية من الهند قبل ظهور الوباء ويدعى محمد خليفة العطشجى، نزل إلى البر وجاء إلى دمياط وهو يحمل جراثيم الداء، ولم يكد يصل إليها حتى ظهر الوباء فيها».
أطلق المصريون على هذا الوباء وقتها وصف «الهيضة» و«الشوطة»، وجاء وصف «الشوطة» تعبيرا عن انتشار حالات الوفيات، وسرعة تفشى الوباء بين المصريين فى القرى والكفور والنجوع بمحافظات مصر من الدلتا إلى الصعيد، ويؤكد عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «مصر والسودان»، أن الوباء لم يكد يصل إلى دمياط حتى ظهر فيها، وساعد على سريان عدواه بها رطوبة مناخها وكثرة ما فيها من الحوارى الضيقة المتعرجة، ومرور خليج فى وسطها يستقى منه سكانها، ويصل ماء النيل إلى الأراضى المجاورة لها، وكان سببا فى زيادة الرطوبة فى منازلها، وزاد منها قلة الوسائل الصحية التى كانت عليها مصر.
انتقل الوباء من دمياط إلى باقى أقاليم مصر، ويذكر الرافعى، أنه انتشر على الأخص فى مدن: «شربين، والمنصورة، وطلخا، وسمنو،د والمحلة الكبرى، وطنطا، وزفتى، وميت غمر، والسنبلاوين، ومنوف، وكفر الزيات، ودمنهور، وكفر الدوار، والإسكندرية، ورشيد، وبورسعيد، والإسماعيلية، والسويس، والزقازيق، ثم القاهرة، وبنها، والجيزة، وبنى سويف، والمنيا، وأسيوط، وجرجا، وقنا»، وكان المصريون مع كل صباح يترقبون فيما بين عوائلهم من سيصيبه المرض والذى يؤدى إلى الوفاة مباشرة، نظرا لعدم وجود أى إسعافات سريعة، وكانت حالة التداوى من الأمراض المنتشرة وقتها تعتمد على الوصفات واللجوء إلى الشيوخ وأعمال السحر.
ويذكر «شفيق باشا»: «انتشر الوباء فى أقاليم القطر ومدنه انتشارا مريعا، وفتك بالأرواح فتكا ذريعا، وأشد ما كان ذلك فى الأحياء الوطنية المكتظة بالسكان، لا سيما حى بولاق حيث كانت ضحاياه بالألوف، وبلغ من ذعر الناس وخوفهم أن ألوفا من نزلاء القطر غادروه إلى سوريا وأوروبا، وأقاموا بها إلى أن تقلص ظله فى البلاد».
يرى «شفيق باشا» أن الحكومة المصرية عنيت بأمر هذا الوباء أكبر عناية، فاتخذت أشد الاحتياطات الصحية للوقاية منه وحصره فى مناطق معينة، وأنشأت اللجان فى مصر وإسكندرية وغيرهما وخصوصا فى دمياط والمنصورة لإسعاف المصابين وإرشادهم إلى طرق الوقاية، ويذكر «شفيق» أن عدة بعثات طبية وصلت إلى مصر للبحث فى منشأ الوباء، ومن هذه البعثات بعثة ألمانية برئاسة الدكتور «باستير كوخ» المعروف، وبعثة فرنسية برئاسة «باستور» العالم الكيماوى الشهير، ولحقت بها بعثة أخرى روسية مؤلفة من أشهر أطبائها، وأجمع رأى هذه البعثات على أن الوباء وافد من بلاد الهند.
كان قدوم «باستير كوخ» إلى مصر البداية الحقيقية لاكتشاف الميكروب المسبب للكوليرا، وشيوع علم البكتريولوجى، وفقا للكاتب الصحفى محمود دسوقى فى «الأهرام، 23 مارس 2020»، نقلا عن الدكتور سيف النصر أبوستيت فى محاضرته عن «تاريخ الأوبئة فى مصر» ألقاها عام 1948، مؤكد أن العالم الألمانى قرر المكوث فى الإسكندرية وتشريح جثة ميت بالكوليرا عام 1883، وقال «كوخ» الذى حاز على جائزة نوبل لإسهاماته العلمية والطبية: بعد بضعة ساعات من وصولى للإسكندرية شرعت فى تشريح جثة ميت بالكوليرا، وفحص براز المصابين فى المستشفى اليونانى، كما اتبعت الطرق العلمية فى زرع الجراثيم وتفريخها، واستعملنا كذلك حيوانات التجارب لإيجاد حل للمرض، وكل الأبحاث التى قمت بها فى الإسكندرية كانت الأساس الذى تمكنت من خلاله من معرفة المرض، وقارن «كوخ» بين أبحاثه على جثة مريض بالكوليرا بالإسكندرية، وبين جثة مريض بالكوليرا فى الهند، ليعلن عام 1884م توصله للميكروب ووضع القواعد لمكافحته والوقاية منه.
يذكر «أبوستيت» أن مصر صرفت مبلغ مليون و400 جنيه لحرق الكبريت وإلقائه فى الشوارع كنوع من التعقيم دون جدوى، وقررت غلق الأسواق ومنع التجمعات، ويذكر الرافعى «أن عدد المتوفين فى دمياط بلغ 1936، وفى الاسكندرية 1034، وفى شبين الكوم 1120، وفى القاهرة 5664، وخفت وطأته فى أواخر أغسطس 1883، أى بعد نحو أكثر من شهرين، وأمكن استئصاله فى شهر ديسمبر، بعد أن بلغ عدد الضحايا ستين ألفا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة