زار السلطان العثمانى مصر فى أبريل 1863، فغمره «إسماعيل باشا» بالهدايا والتحف الفاخرة حتى ملأ بها سفينة بأكملها، حسبما يؤكد عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر إسماعيل»، مضيفا: «زود إسماعيل، الصدرالأعظم فؤاد باشا وحده بستين ألفا من الجنيهات رشوة ليتخذ منه عونا فى مساعيه لدى الحكومة التركية، وعاد عبدالعزيز من زيارته مغتبطا مما لقيه من الإكرام، ومهدت هذه الزيارة الطريق أمام إسماعيل لينال رغائبه».
يذكر الرافعى، أن إسماعيل كان يرغب فى تغيير نظام العرش، فقد كان النظام القديم الذى فرضه فرمان سنة 1841 يقضى بأن يؤول عرش مصر إلى أكبر أفراد الأسرة العلوية سنا، كالنظام المتبع فى تركيا، فسعى إسماعيل جهده أن يؤول العرش إلى أكبر أنجاله.
يؤكد إلياس الأيوبى فى كتابه «تاريخ مصر فى عهد إسماعيل»، أن الحقد والحب هما السبب فى إقدام إسماعيل على هذه الخطوة، ويوضح: «أما الحقد فكان على الأمير مصطفى فاضل أخيه من غير أمه، وعلى الأمير حليم باشا عمه، ومرجع السبب فى حقده على أخيه إلى كره والدتيهما المتبادل، فوالدتاهما كانتا مختلفتى الجنس والميول، ولم تكتفيا بتبادل الكره بينهما، بل أشربتاه قلبى ولديهما، واجتهدتا فى جعلهما عدوين لدودين، لا سيما أنهما ولدتاهما فى شهر واحد، وبينما كل منهما تتمنى أن تكون أسبق الاثنتين إلى الوضع ليكون ابنها أقرب إلى العرش، مال الحظ إلى جانب «أم إسماعيل»، ويوضح الأيوبى سبب حقد إسماعيل لعمه «حليم باشا»، قائلا: «إن هذا الأمير كان فى الواقع يتطلع إلى الأريكة المصرية ويرغب فيها»، وهو نفس التطلع الذى كان عند «مصطفى باشا فاضل».
يوضح الأيوبى، الظروف التى ساعدت إسماعيل لتحقيق هذا الغرض، والأموال الباهظة التى أنفقها للوصول إليها، قائلا: «من حسن طالع إسماعيل أن ميله إلى ذلك ونجاحه فيه كان يوافق هوى نفس عبدالعزيز، الذى كان يشتهى أن يغير نظام الوراثة فى أسرة عثمان، وهو أيضا كان يتمنى أن يحصرها فى ابنه يوسف عز الدين، وفى بِكر أولاده بعده، فبِكر أولاده إلى الأبد ، ولكنه لم يستطع بلوغ أمنيته لقوة التقاليد، فكان يرغب والحالة هذه فى نجاح إسماعيل فى سعيه ليكون ذلك سابقة يبنى هو على قاعدتها».
يكشف «الأيوبى»، أن السلطان عبدالعزيز تظاهر بالرفض فى بادئ الأمر حتى ينال من مال إسماعيل وهداياه ما هو جدير بالتغيير المطلوب، وأوعز إلى بعض جرائد الآستانة بأن تكتب فى الموانع القائمة دون تحقيق رغائب والى مصر، وأن تبالغ هذه الجرائد فى وصفها، فانخدع إسماعيل إلى حد استئجار جرائد أخرى لتحبذ التغيير.
يؤكد الأيوبى أن السلطان عبدالعزيز نجح فى خطته، ويكشف كيف استطاع اصطياد أموال إسماعيل، قائلا: «فتح يده سخية فى السر والجهر، فجرت خيرات النيل ذهبا وفضة على ضفاف البوسفور، حتى لم يتبق هناك ذات واحدة ممن يرجى فى مساعيها تقديم وإنجاح للمسعى المصرى إلا ونالها من عطاياه»، ويصف الأيوبى ما جرى، قائلا بدهشة: «لو أراد التاريخ حصر قيمة ومقدار كل ما صرف فى تلك الأيام فى الآستانة، وتعداد الأبواب التى صرف فيها لأعياه الأمر وسقط دونه كليلا، لأن المبالغ المصروفة تجاوزت عدة ملايين من الجنيهات».
يؤكد الرافعى: «بلغت الأموال التى بذلها إسماعيل فى الآستانة ثلاثة ملايين من الجنيهات»، ويضيف «اغتنم حكام تركيا وذوو النفوذ فيها فرصة التنافس بين إسماعيل وأخيه مصطفى فاضل وعمه حليم، ليبتزوا من أموال مصر ما تصل إليه أيديهم، فقد بذل الأميران أموالا طائلة فى الآستانة لإحباط مسعى إسماعيل، فاستفادت من الناحيتين».
يذكر الرافعى: «كانت نتيجة مساعى إسماعيل صدور فرمان 27 مايو - مثل هذا اليوم - 1866 القاضى بانتقال مسند ولاية مصر وملحقاتها سواكن ومصوع إلى أكبر أولاده، ومن هذا إلى أكبر أبنائه وهلم جرا».
ويرى الرافعى: «هذه التضحية المالية لا توازيها الفائدة التى نالتها مصر من هذا التغيير، لأن توارث العرش ليس مسألة جوهرية تهم البلاد حتى تبذل فى سبيلها هذه الملايين، هذا إلى جانب أنها كلفت مصر تضحية مالية أخرى، ذلك أن تركيا اشترطت مقابل هذا التغيير زيادة الجزية السنوية من 400 ألف جنيه عثمانى إلى 750 ألفا، أى ما يقارب الضعف، وهى زيادة فادحة تحملتها مصر باستمرار لغاية سنة 1941 وهى السنة التى زالت فيها السيادة العثمانية عن مصر».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة