ناهد صلاح

الحشاشين.. ثقل التاريخ وقسوة الراهن

الأحد، 24 مارس 2024 12:45 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

انتصف شهر رمضان ولا يزال مسلسل "الحشاشين" تأليف عبد الرحيم كمال وإخراج بيتر ميمي، يتصدر ساحات الجدل والنقاش الساخن بين فريقين، أولهما يتماهى معه بوصفه ملحمة تاريخية وخطوة راسخة على درب الدراما المصرية شكلًا ومضمونًا، أي بصريًا وحكاية، وثانيهما يستهجن ويستنكر تفاصيل كثيرة في الحكاية، تتعلّق معظمها بأسباب إنجازه ثم بكيفية تنفيذه، وبعضها بفذلكة اصطياد أخطاء تاريخية، وهي أمور اعتادتها الأعمال التاريخية مع جماهير عطشى للمعرفة وتحاول أن يكون لها وجهة نظر.. على خلفية السجال المُثار، فإننا بصدد مسلسل (موضوعًا وشخصيات وسياقات وأحداثًا وتفاصيل) يُشكّل نوع من التوثيق البصري والفني لحكايات وأحوال في التاريخ، دون إغفال للخيال وتأثيره وفعاليته، بما قد يأخذنا لتأملات جديدة في واقعنا الحالي، فالذاكرة والتاريخ مليئان بقصص ظاهرها مثير وأخاذ وباطنها باطش وعنيف، أما الحاضر والراهن فهو مبنيٌّ على إرث القسوة الذي نحاول الإفلات منه.


منذ استهلاله قدم أحداثه في مرحلة تاريخية ثرية بالأحداث والتحولات، يحكي عن حسن الصباح وجماعة الحشاشين في القرن الـ11 الميلادي، والكثير من قصص العنف والدماء والدهاء والحيلة.. ثمة قراءة مُعمّقة لواقع في الماض، ينبش من خلالها الكاتب عبد الرحيم كمال فصلًا من التاريخ لإضاءة أزمة الحاضر، تناسق واضح في سياقه الحكائي، شخصيات من التاريخ والذاكرة ومناخ إنساني مشبع بالوقائع ومكتوب بسلاسة، يعيد صوغ الماضي كأنه جزء حيّ من الحاضر.


ربما هذه الطريقة كانت من أسباب الاحتجاج والاستنكار لدى الفريق الثاني الذي اعتبر المسلسل انعكاسًا لخلافات على أرض الواقع، أو بالأحرى أنه يبلور الحاضر بإسقاطات تاريخية تهدف إلى تصفية حسابات معاصرة، في إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين، قد تكون هذه هي النقطة الأبرز في الهجوم على المسلسل من زاوية أنه تم تطويع السيناريو حسب هذا الاتجاه، كأنه "شطحة" فكرية تستخدم التاريخي لمحاربة جماعات وطوائف معاصرة، لم ينتبه أصحاب هذه الرؤية أنهم يتبنون نظرية تكرس للطائفية بتاريخها الشرس، كما فعلت "الحشاشين" منذ وُجدت، إنهم هنا متشابهون وإن اختلفت الطرق في ترسيخ أفعالهم، ولم يستوعبوا الدراما وما تتطلبه من الخيال وتجلياته التي تنطرح من خلالها الوقائع مفعمة بما يسد ثغراتها، وإلا تحول العمل إلى بيان أيدولوجي، وهذه أمور ليست هينة على كاتب العمل وسعيه لتقديم حكاية إبداعية.


الخيال أكثر تحريضًا على التفكير والتأمل وإعمال العقل إزاء المسائل كلّها. شيءٍ من الخيال ينجز صنيعًا فنيًا يتنوّع بتنوّع هواجس مُبتكرِه وأحلامه وتساؤلاته وقلقه وخيباته ومشاعره وأفراحه، ويُشيد بناءً جماليًا ودراميًا يستند على فنون وآداب وعلوم إنسانية مختلفة، وهذا يعني اتّساع متطلّباته، ما يدفعه إلى سبر أغوار نفوس بالاتّكاء على الخيال، في جزءٍ أساسيّ من صُنعتها، هذا يعني أنّ الخيال له قدرته الساحرة على التأثير المُباشر في الوعي، بطرح أسئلة، والحثّ على البحث عن إجابات عنها. تسهم في بلورة وعي ومعرفة وتساؤلات. والصورة المنجزة بتقنيات متطوّرة أقدر وأسرع على ممارسة هذا التأثير غير المحصور في جانب من دون آخر. هذا يصنع بهاءها ورونقها، وحضورها عند ناس مختلفي الأذواق والثقافات والتربية والمسالك والمفاهيم.


  ثمة نقطة أخرى بارزة وهي مصادرة إدراك الجمهور على إعتبار أنه لن يفهم المسلسل، لأن الأغلبية لم تقرأ عن صراع المذاهب أو الطوائف الدينية وتوسع نفوذهم، وبالتالي فإن صُناع "الحشاشين" وفق هذا التصور قد أوقعوا أنفسهم في ورطة كبيرة، لأنهم لن يستطيعوا تفسير ما حدث أو حتى سرده مما سيجعلهم يقدمون الأحداث بطريقة ملغزة، غير محبوكة وعصية على الفهم وطاردة للمتفرجين.. في الحقيقة هذه رؤية غريبة لأنها مرة أخرى تستنكر تفعيل الخيال وهو أساس العمل الفني، كما تتجاهل أعمال تاريخية كثيرة سابقة لم يكن الجمهور في حينها  يدركها ثم صارت جزءً من وجدانه وميراثه الثقافي.. وبالمناسبة هناك بعض الأعمال الدرامية السابقة تطرقت بأشكال متفاوتة لجماعة الحشاشين وحسن الصباح، يذكرني مثلًا صديقي الناشر السوري المعروف مجد حيدر، حين نبهني إلى إصداره الطبعة العاشرة من رواية "الموت" للسلوفيني "ڤلاديمير بارتول" وما ورد فيها عن قلعة "الموت" وشخصيات "الحسن بن الصباح" و"عمر الخيام" و"نظام المُلك" وعملية تقويض سلطة سلاجقة الأتراك في بلاد فارس عام 1092 وغيرها، فيقول: "كلّها عناصر وُجِدت واقعيًا في التاريخ لكنها ليست في هذه الرواية أكثر من عناصر سردية في نص لا يكتسب واقعيته سوى من كونه الآن بين أيدينا".. أليس هذا التنبيه من "مجد حيدر" والذي أعقبه بتنبيه آخر حين كتب:" بمناسبة النسخة التلفزيونية "المصرية" الثانية، تحت مُسمّى "الحشّاشين"، وكانت الريادة قبلًا لمسلسل سوري، بالعمل على سيرة "الحسن بن الصباح" وقلعته الأسطورية "الموت" وجماعته السرية المسماة "الحشاشين" التي هددت عروش خلفاء المسلمين، المختلفَة لا المؤتِلفة قلوبهم، بكافة أصقاع الأرض".. ألا يدل هذا على حضور لافت الانتباه للمسلسل كفكرة وموضوع، وأن إغلاق أبواب المعرفة على الجمهور هو أمر غير منصف، بل إنه فيه قدر كبير من التعنت والتَكَبُّر في ذات الوقت؟.


في مقابل ذلك فإنه حتى ما تابعناه من احتجاج على استخدام اللهجة المصرية في حوار المسلسل بدلًا من العربية الفصحى، تُعد هذه النقطة بالذات مفتعلة إلى حد كبير وفي غير موضعها، وقد قام العديد من النقاد بتفنيدها وتخليصها من فذلكة أخرى لاداعي فني أو قومي لها، وهي بصراحة فيها نوع من الاستعلاء غير المبرر على العامية المصرية، وهو أمر غير مفهوم من ناحية وغير منطقي من ناحية أخرى خصوصًا وأن لدينا تجارب ناجحة في ميراثنا الفني بالدارجة المصرية، فما زلنا نردد حوار فيلم "وإسلاماه" الذي أخرجه أندرو مارتون في بداية ستينيات القرن الماضي، كما مازلنا نتذكر ما فعله يوسف شاهين حين مزج العامية بالفصحى في أفلامه:" الناصر صلاح الدين، المهاجر، المصير"، ويصرف النظر أن العامية المصرية الأكثر إنتشارًا في ربوع العالم العربي لم تقابل هذا الاستهجان كما يحدث الآن من بعض أبنائها، وهم أنفسهم الذين استقبلوا بترحاب مسلسلات تركية تاريخية مثل أجزاء "حريم السلطان" بالعامية التركية أو الدارجة السورية دون إعتراض، وكذلك المسلسل الإيراني "يوسف الصديق" تم تقديمه بالفارسية قبل دبلجته إلى العربية، مع أن الشخصيات في المسلسل في الأصل كانت لا تتحدث  الفارسية أو العربية، فلماذا إذن يريدون "الحشاشين" بالعربية لفصحة وهو الذي يسرد حكاية عن جماعة هي بالأساس غير عربية؟.


على أية حال فإنه في هذا السجال دلالات نجاح يصعب تجاهلها، وتكشف عن مهارة صانعي المسلسل التي تقودنا إلى مهارة مخرجه بيتر ميمي، وبراعته في استخدامه للتقنيات التي توازي ثقل النص والسيناريو، تجلى ذلك في الصنيع البصري المتكامل: الصورة، الديكور، الملابس، الماكياج، الجرافيك، المونتاج وكافة العناصر الفنية التي تسهم في تغذية الخيال وتحرض على التأمل، وهو الهدف الذي أشرت إليه سابقًا، هذا غير الأداء التمثيلي الذي يبين قدرات الممثلين وتغيير جلدتهم القديمة إلى تحديات جديدة، قد يتضح هذا مع كريم عبد العزيز في دور حسن الصباح، أحمد عيد في دور زيد بن سيحون، فتحي عبد الوهاب في دور نظام الملك، وإن تفاوت أداء نيقولا معوض في دور عمر الخيام، لكنه أيضًا يجدد دماء التمثيل بأسماء مثل أحمد عبد الوهاب في دور الجندي يحيي، ميرنا نور الدين في دور دنيا زاد، سارة الشامي في دور نورهان و.. غيرهم.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة