استعرضت فى المقال الماضى بعض أكثر مشاهد التاريخ قتامة ودموية لمن كانوا يحسبون أن لديهم «تفويضا سماويا» بالقتل والترويع.. والسؤال الآن: ما الذى يمكن أن يجعل إنسانا يؤمن بتلك الفكرة المجنونة؟ ما هو العامل المشترك فى تلك المشاهد؟
ربما يسارع البعض باتهام «الدين» بالمسؤولية عن تلك الفظائع.. وبعيدا عن الردود العاطفية الغاضبة التى تبرئ الأديان من تلك التهمة من منطلق المحتوى الأخلاقى للأديان، فثمة رد تاريخى بسيط أن نفس تلك الأديان التى ارتكب بعض معتنقوها جرائم بشعة ضد مخالفيهم فى الدين أو الفكر أو التوجه، كان يعتقنها أناس خدموا الحضارة الإنسانية بفكرهم وعلومهم وفنونهم، واستنكروا ما ارتكب من جرائم باسم الإله.. فأين المشكلة إذن؟
أجيب بكل ثقة بأن المشكلة فى المجرم نفسه، فالعراق القديم الذى جاء منه الأشوريون بكل دمويتهم ووحشيتهم قدم للعالم أول نموذج للائحة قوانين وضعية هى شريعة الملك البابلى حمورابى، والمسيحية التى كان يعتنقها كل من قتلة هيباتيا فى الإسكندرية، والفرنجة الصليبيون برصيدهم المخيف من المذابح فى الشرق والملك النرويجى أولاف، تأمرهم تعاليم السيد المسيح عليه السلام بأن يلاقوا الناس بالتسامح والتجاوز عن الإساءة، ويحدد لهم القديس أوغسطين فى كتاباته شروط الحرب العادلة، وأهمها ألا يكونوا هم البادئين بالعدوان، والخوارج ورجال يزيد بن معاوية والقرامطة كانوا يدعون الدفاع عن الإسلام، الذى قال رسوله بشكل صريح إن حرمة النفس أعظم من حرمة الكعبة ذاتها، وباروخ جولدشتاين والمتطرفون اليهود تأمرهم الوصايا العشر ألا يقتلوا بغير الحق.. المشكلة إذن ليست فى الدين وإنما فى «ما فعله هؤلاء بالدين وباسمه».
أقول بكل ثقة كذلك: إن المتطرف أيا كان دينه، كان ليعتنق نفس الفكر المتطرف ويقترف نفس الجرائم البشعة، لأن منطلق اعتناقه ذلك الفكر وارتكابه تلك الجرائم هو «عبادته لذاته».. بلى.. فهو لم يتعصب لمعتقده إلى حد القتل باسمه لاقتناعه بأن معتقده يستحق التعصب له، وإنما لأنه «معتقده هو»، يمكننى أن أشبه ذلك بالتعصب القبلى أو العرقى أو القومى أو حتى الرياضى، حيث يتعصب المرء لما يعده جزء من شخصيته وهويته، ويشيطن ما سوى ذلك من انتماءات إلى حد استباحة ارتكاب كل شىء بحق معتنقيها.
بعضهم ينطق تعصبه من تفكيره الشخصى، والبعض الآخر يلاقى فى القراءات المتعصبة لدينه ما يوافق هوى نفسه فيعتنقها، بل ويضيف لها ما يحلو له من تأويلات للتشدد فيها، وتوسيع دائرة كراهية الآخر فى عقله، فهو يجعل - حرفيا - إلهه هواه.
وهو فى قراءته للواقع التاريخى والمعاصر ينطلق من أن العالم يتمحور حوله هو وأهل انتمائه، فما التاريخ إلا قصة هم أبطالها والآخر يلعب فيها دور شرير القصة، من هذا المنطلق الفاسد أتت فكرة الأشوريين، أنهم هم المفضلون من الإله القاضى بتسيدهم على سائر البشر، وقتلة هيباتيا، كانوا مقتنعين بأنهم المطهرون للأرض من الوثنية، والخوارج سموا أنفسهم «الشراة» باعتبار أنهم قد اشتروا الجنة من الله بـ«جهادهم المرتدين» حتى إنهم قد اعتزلوا سائر المسلمين، واصطنعوا لأنفسهم «دار هجرة»، فبهذا عرفوا بـ«الخوارج» لخروجهم عن المجتمع، ومسلم بن عقبة، قائد جيش يزيد بن معاوية بالمدينة، عد نفسه ومن معه أنهم المطيعون لـ«ولى الأمر» وإن أهل المدينة مارقون عن الدين، والملك النرويجى أولاف تريجفاسون نصب نفسه سيفا للرب على الوثنية فى أوروبا المسيحية، والقرامطة اعتبروا أن الله قد جعلهم قائمين بإحياء الدين، الذى رأوا أن من سواهم قد ارتدوا عنه، والصليبيون كانوا يعدون أنفسهم جنودا فى «مدينة الرب» ضد «مدينة الشيطان» التى تتسع لتشمل أى إنسان ليس مسيحيا كاثوليكيا، والمتطرفون اليهود يؤمنون بأن «ألوهيم/الإله» قد فضل أبناء إسرائيل على «الجوييم/الأغيار» من غير اليهود، حتى إن وصايا النهى عن القتل والإيذاء إنما تنهى عنه اليهودى مع اليهودى مثله وليس مع غير اليهود.
ولأن التطرف بالنسبة للمتطرف أشبه بحلقة معنوية يضربها حول نفسه، فإن تلك الحلقة لا تقف عند حدود ثابتة، بل إنها تتوحش فتضيق تدريجيا، فهو يبدأ بالتعصب ضد المخالفين لأهل دينه، ثم يضيق الحلقة لينبذ منها المخالفين له من أهل دينه فيراهم مرتدين أو خاطئين أو مارقين، ثم ينتهز الخلاف مع من هم على نفس تعصبه فـ«يطرد» منهم من تقل درجات تعصبهم عنه.. وهكذا حتى يصطفى نفسه على العالم، ربما لذلك يلاحظ القارئ فى تاريخ الحركات المتطرفة أنها تمر دائما بمرحلة للانقسام، وخروج حركات أكثر تطرفا من عباءتها، بل وقد يتطور الأمر لدرجة رفع رفاق الأمس فى الحركة المتطرفة السلاح ضد بعضهم بعضا.. يذكرنى هذا بخروج تنظيم داعش الإرهابى من عباءة تنظيم القاعدة الإرهابى، ثم قراءتى بعد ذلك خبرا غريبا أن «سلطات داعش» خلال سيطرتها على مساحات من سوريا والعراق قد ألقت القبض على «خلية تكفيرية» تعمل داخل نطاق نفوذها، الأمر الذى جعلنى أتساءل عن مستوى تطرف ذلك الذى يزايد على داعش فى التكفير!
لهذا لا يعد غريبا وصف التكفيريين أنفسهم بـ«الغرباء» و«القابضين على الجمر فى آخر الزمان»، ووصفهم المجتمع - كما فعل المتطرف سيد قطب - بأنه يعيش فى «جاهلية»، وبحثهم عن «دار هجرة» باعتبار أن مجتمعاتهم قد أصبحت «دار الكفر».
وهنا يثور سؤال آخر: ما الذى يغذى حالة «نبذ المجتمع» عند المتطرف فيصل به إلى هذا الحد؟ صحيح أن البذرة الشيطانية لذلك الرفض المحموم من المتطرف لمحيطه موجودة بداخله، لكن تلك البذرة تحتاج إلى «تربة خصبة» و«مصدر تغذية».. فما هى تلك التربة ومن أين تتغذى البذرة والنبتة؟
إجابة هذا السؤال نعرفها معا فى المقال المقبل إن شاء الله.

مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة