اقرأ آخر نقد فنى كتبه الفنان التشكيلى عز الدين نجيب قبل رحيله

الجمعة، 22 سبتمبر 2023 05:00 م
اقرأ آخر نقد فنى كتبه الفنان التشكيلى عز الدين نجيب قبل رحيله الناقد عز الدين نجيب
كتبت بسنت جميل

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

رحل عن عالمنا الفنان والناقد الكبير الدكتورعز الدين نجيب، عن عمر يناهز 83 عامًا، بعد صراع مع المرض، وكان أخر ما كتبه الناقد والفنان الكبير عز الدين نجيب عن معرض (سكتش)، الذى تم افتتاحه أمس، بقاعة أفق، فى متحف محمود خليل وحرمه.

ويقول الفنان والناقد عز الدين نجيب جاء الاسكيتش، بعنوان "البصمة العميقة لشخصية الفنان، وإن أقدم اسكتشات وصلت إلينا منذ فجر التاريخ هى الرسوم العفوية على شقفات الفخار التى عثر عليها فى "دير المدينة" بالبر الغربى للأقصر، حيث كانت تقام ورش العمل للفنانين وربما مساكنهم أيضا، رسمها هؤلاء الفنانون فى وقت فراغهم من المهام الرسمية المكلفين بها بدون نية استخدامها فى أية أعمال دينية أو للتقرب من الآلهة أو الحكام، بل لمجرد التعبير الحر عن أحاسيسهم وخواطرهم، ويكون مصيرها عادة الإهمال والتحطيم فى النهاية، لذلك بدت مختلفة تماما عن طابع الرسوم الجنائزية بل المعبرة عن الحياة الواقعية على جدران المقابر والمعابد وكل ما له صفة القداسة وخدمة العقيدة، وبعيدة عن الاكتمال والأناقة والعظمة، ، بل بدت أقرب إلى الانطباعات اللحظية عن صور الحياة اليومية بحس تلقائى ودنيوى، متحررة من حاكمية الأساليب الرسمية المقيدة لحرية الفنان، لكنها تملك جرأة وطلاقة وحسا فرديا لصاحبها، بل إن بعضها يحمل حسا ساخرا أقرب إلى الكاريكاتير، معبرا عن وجهة نظر شخصية للفنان تعبر عن انتقاده لأمر من الأمور.

وقليلة هى الأعمال من هذا النوع التى حفظها لنا التاريخ من فنون الحضارات التالية حتى عصر النهضة الإيطالية فى القرن الخامس عشر، ولعل أكثر فنان من هذا العصر وعباقرته توفرت لدينا اسكتشات ودراسات خطية من إنتاجه هو ليوناردو دافنشى، وهى تتراوح بينالخطوط السريعة بالحبر الأسود أو البنى التى يقتنص بها الفنان الملامح الخام لوجوه وحركات مشخصاته أو خيوله وحيواناته، وبين الدراسات الأوليةلتشكيلاته الهندسية واختراعاته الميكانيكية، وبشكل عام كانت تمثل تخطى الفنان للقالب الدينى المتزمت للفن فى خدمة الكنيسة والإقطاع، ولا نزال نرى فيها بذرة العبقرية الفذة لهذا الرائد ،بوجوهها الإبداعية المتعددة وبصمتها الشخصية المبكرة التى جعلت من أعماله طاقات تعبيرية متجددة على مر الزمن.

ولو فتشنا فى تراث أى فنان كبير عبر التاريخ سوف نجد الكثير من هذه الانطباعات الأولية الطازجة بالأقلام والأحبار وقطع الطباشير الشمعى على الورق، بمثابة مفاتيح لأعمال فنية كبرى بألوان الزيت أو الفريسك، سوف تصل إلينا لاحقا مكتملة ومبهرة، ربما بدون نفس الطزاجة والفطرة الأولى لرسم الإسكتش أو الرسم التحضيرى الذى سبقها بألوان متقشفة وخطوط متحررة وملامس بدائية وبأقل قدر من التفاصيل، إلا بالنسبة للمقاطع التفصيلية للأيدى والأصابع وملامح الوجوه كدراسات تحضيرية للوحة الجدارية او لوحة الحامل.

إن تجارب،الاسكتشات والرسوم التحضيرية جديرة بأن تكون مَعينا لا ينضب للدارسين بحثا عن جذور وبصمات الإبداع لدى كل فنان، ومعرفة موقفه من الطبيعة بحالتها الأولية، وموقفه أيضا من المدارس الفنية فى خطوطها العريضة، وموقفه ثالثا من "الشكل الفنى" فى حالته الجنينية، وأخيرا لمعرفة منهج تطويعه وتطور أسلوبه حتى وصل إلى حالته النهائية  فى العمل الفنى بعد اكتماله.

وحقيقة الأمر ان الاسكتش القوى يعد عملا فنيا قائما بذاته يملك دعائم بقائه، واهم نموذج لذلك هى اسكتشات الفنان بيكاسو ، حيث نرى بعضها يتطور  باسلوب الفنان من الواقعية حتى التجريد، فى حالة نمو تمر عبر عدة مراحل، من التعبيرية إلى التكعيبية وصولا إلى التجريد..وخير مثال على ذلك من أعماله هو لوحته الجدارية الشهيرة "جورنيكا" عن الحرب الأهلية الأسبانية ومقاومة الفاشية، إن اسكتشات هذه الجدارية تعكس احتشادا بالشحنة التعبيرية، كما تمتلئ بعناصر الحركة والإيقاع والعلاقات البينية المتشابكة فى التكوين، وتتميز بومضات النور والظل وبقع التضاد والتداخل او العتامة والإضاءة، بل تحمل إرهاصات فلسفة الشكل ذاتها، كونها تبدأ باستلهام الطبيعة والواقع ثم تأخذ فى تحريف ملامحها وإعادة بنائها برؤية كلية "جشطلتية"ذات حلول ابتكارية، ما جعل من اللوحة فى النهاية اتجاها فنيا عالميا قابلا للبناء عليه واستلهامه من جانب العديد من الفنانين.

ولنأخذ بعض النماذج من حركتنا الفنية، لقد كانت رسوم الاسكتشات للفنان الرائد محمد ناجى عن حياة الصيادين والمراكبية على ترعة المحمودية، وحياة الحرفيين والشغيلة والحيوانات الألفة صديقة الفلاح وزحام الأسواق فى قريةأبو حمص بالبحيرة وغيرها فى ريف مصر مثل قرى الأقصر، بل رسومه أثناء رحلاته خارج مصر مثل قبرص واليونان، كانتتمثل خواطره وانطباعاته الأولى التى تمهد للوحاته الزيتية الكبيرة فيما بعد ، كان يسجل هذه الانطباعات الخطية فى دفتر اسكتشاته الذى لم يفرق يده يوما، ومنها ما تجده اليوم فى متحفه قرب الهرم على طريق الإسكندرية الصحراوى، كانت هذه الاسكتشات بمثابة مركبته التىانتقل بها من الكلاسيكية التى شب عليها متأثرا برموزها المشهورين فى الفن الأوروبى حين كان يستنسخ أعمالهم..إلىالواقعية حيث كان يستلهم آثار العمارة والنحت فى الفن المصرى القديم بالأقصر وقت أن اتخذ لنفسه مرسما بها منذ عام ١٩١٢ بالتبادل مع أسفاره المطولة إلى عواصم أوروبا، ثم انتقل عبر مركبة الاسكتشات الى التعبيرية عن ملامح الحياة اليومية بالاسكنرية وأبو حمص بعد أن أصبح أكثر نضجا مما كان فى بداياته، ثم انتقل إلى الانطباعية (التأثيرية) حين انتهى إلى التتلمذ على يد رائدها الفنان الفرنسى كلود مونيه عام ١٩١٨ فى مرسمه بضيعة جيفرنى، ثم كانت الاسكتشات أخيرا مفتاحه الإبداعى لفهم الطبيعة والعلاقات الاجتماعية للشعب وحكامه فى الحبشة عام ١٩٣٠، حيث أنجز مرحلته التعبيرية الضارية بمذاق الحوشية، تلك المرحلة الجياشة بالقوة والعفوية التى تعد التاج الذى يتوج رحلة حياته الفنية.

ويمكننا قول المعنى نفسه عن الفنان الرائد محمود سعيد، فى رسومه السريعة بالفحم أو بالأقلام ، عن حياة الريفأو الأحياء الشعبية بالإسكندرية، أو على شاطئ البحر، معبرا عن كفاح الصيادين، ففى هذه الرسوم الطليقة نجد جوهر الحس العاطفى والتأملى الرقراق قبل اكتماله ونضوجه فى لوحاته الزيتية، وربما كان يحملوجها آخر لشخصيته الفنية ؛ الوجه المتمرد على الكابع الكلاسيكى المحافظ لحياة طبقته الأرستقراطية، ولعل ذلط ما قاده أيضا إلى رسم لوحاته للمرأة العارية التى اختارها من البيئة الشعبية رغم وجود موديلات محترفات من أصول أوروبية، وكانت تسبق لوحاته الزيتية للنموذج العارى اسكتشات قوية يبدو فيها الضوء لاعبا أساسيا فوقها يبرز تضاريس الجسد الأنثوى فى رسوخ نحتى .

أما الفنان الرائد راغب عياد، فقد كانت روح الاسكتش مبتدأه ومنتهاه، بمعنى أن الخطوط السريعة السوداء المختزلة لملامح الطبيعة والأشخاص كانت مفتاح رؤيته الإبداعية، فجعل من الاسكتش بخطوطه المستلهمة من أسلوب الفن المصرى القديم عملا فنيا قائما بذاته، بل انتقل بفلسفة هذا الاسكتش إلى اللوحة الزيتية، أى انتقل إليها محملا بالحس اللحظى الطازج للقطة كما يتجلى فى الاسكتش، كما انتقل إلى اللوحو الكبيرة بالحركة والسياق التتابعى أفقيا ورأسيا متغاضيا عن المنظور الهندسى ذى الثلاثة أبعاد واكتفى  ببعدين اثنين بدون التجسيم الأسطوانى للأشكال، جاعلا من ازدحام الأشخاص والخطوط تجمعا بديلا للكتلة بالضل والنور، وذلك عل غرار التصوير فى الفن المصرى القديم، فجاءت أعماله قطعا مرتجلة تجمع بين طزاجة الحياة الشعبية وروح الشخصية المصرية الممتدة عبر الزمن.

ولعل الشقيقين سيف وأدهم وانلى كانا شاعرَىْ الاسكتس المرتجلين أكثر من غيرهما على امتداد الحركة الفنية فى مصر،  فبالإضافة إلى تتبعهما لزيارات الفرق الموسيقية والغنائية  والاستعراضية الأجنبية الزائرة للإسكندرية والجلوس فى كواليس مسارحها لالتقاط حركات مغنيى الاوبرا والراقصين والعازفين بخطوط مختزلة، إلى جانب اسكتشاتهما لملامح الحياة الشعبية بالإسكندرية وعلى شاطئ البحر، وكذا رسومهما التاريخية عن قرى النوبة -طبيعة وشعبا - عند بناء السد العالى أوائل الستينيات قبل غرق هذه القرى فى أعماق بحيرة السد، كانتهذه جميعا بمثابة معمل التجار والإبداع الذى تمتزج فيه لغة الواقع بلغة الخيال ولغة الجمال معا ، وقد أصبحت هذه الاسكتشات دروسا بليغة فى القبض على جوهر الشخصية وعلى محاور الحركة والتكوين والإيقاع ، تلك العناصر التى شكلت أساس لوحاتهما الزيتية كل بأسلوبه الخاص.

وثمة تجربة أخرى فى هذا الصدد لا يجب إغفالها ؛ وهى تجربة مرسم الأقصر الذى كان ملحقا بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة بين الأربعينيات والستينيات، فمن خلاله خرج أغلب فرسان الحركة الفنية فى مصر خلال تلك الحقبة، ونضجت مواهبهم العبقرية على حرارة البيئة الملهمة بعبق التراث الحضارى لمصر الفرعونية وزخم الحياة الريفية فى الأقصر والصحراء والقرى المترامية حولهما، وكانت الاسكتشات هى جهاز الاستشعار عن بعد لترجمة الحس الإبداعى للفنانين من الطبيعة الخام إلى ارواحهم وحواسهم ثم إلى دفاتر اسكتشاتهم ولوحاتهم، مما أسفر عن ترسيخ أعمدة الهوية  المصرية للحركة الفنية ، والتى لاتزال حتى اليوم حاملة جيناتها المتوارثة وسط تقلبات الفن العالمى ورياحه التى تعصف بالهويات الوطنية.

وسأحاول استدعاء ما أتذكره  من أسماء الفنانين الذين تتابعوا على هذا المرسم على مر الأجيال، بدءا بالفنانَين الرائدَين محمد ناجى وراغب عياد،  ومرورا بالفنانين الحسين فوزى وحامد ندا وصلاح طاهر وممدوح عمار وفاطمة عرارجى وآدم حنين ويوسف فرانسيس وسيد عبد الرسول ورفعت أحمد وعباس شهدى وأحمد الرشيدى وعبد الغفار شديد ونبيل تاج، وأعتز بلحاقى بالدفعات الأخيرة بالمرسم دفعة (١٩٦٢- ١٩٦٣) قبل ان يغلق أبوابه لأسباب بيروقراطية وغياب الرؤية المستقبلية.

إن المبادرة بإقامة هذا الصالون النوعى للاسكتش والرسوم التحضيرية خطوة مهمة ولو جاءت متأخرة، وفرصة أمام النقاد والباحثين لتوثيق وإحياء هذا الفرع الفنى بالغ الأهمية، سواء لأهميته فى حد ذاته، او لنفاذ الباحث من خلاله إلى عوالم أبعد وأعمق فى رؤى الفنانين بعد انتقالهم إلى تنفيذ لوحة التصوير أو التمثال الجدارى (النحت البارز) او التمثال الفراغى، بالإضافة إلى تحفيز الأجيال الجديدة من الفنانين والدارسين لصقل مواهبهم على مَسَنٌ الاسكتش والعجالات التحضيرية، فهما أقوى الأدوات لامتلاك البصمة الشخصية المتميزة لأى فنان.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة