ناهد صلاح

سيد درويش.. مائة عام من الموسيقى الملهمة

الأحد، 10 سبتمبر 2023 04:28 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كأن صوت سيد درويش في هذا النهار يفتح ثقبًا جديدًا في الجدار الذي صنعه الانهيار الفظيع للثقافة والفنون، يُشرع أملًا على واقع هو في رأيي البسيط يحتاج إلى فضاء مفتوح على الخيال والإبداع الجدّي، وسط الفوضى الكثيرة التي تعانيها صناعة الفن عمومًا.. لا أقصد التقوقع في الماضي والانحياز إلى النصوص الكلاسيكية القديمة سواء في الكلمة أو اللحن، لكني كما أدرك ضرورة التجديد، أميل إلى أن ثمة حضور لجمال الماضي يدعم الآنيّ ويجعله متألقًا، قد نلحظ ذلك في أسماء جديدة تنبش في الماضي وتصطاد لؤلؤه حين تعيد تقديم القديم، ولعل هذا يزيد مؤخرًا في أماكن شتى بمناسبة مئوية سيد درويش التي تمر هذا الشهر.

اليوم أسمع صوت سيد درويش نفسه، فيبدو أنه أكثر راهنية وحيوية والتصاقًا باللحظة التي نعيشها الآن، المزج بين الحب والهجر والوصال والتعب والكد من أجل لقمة العيش، وغيرها من تيمات معبرة عن الواقع كما كانت في الماضي، وكما هي في حاضرنا الحالي، فهي نتاج لإبداع سيد درويش العابر للسنوات.

"الحلوة دى قامت تعجن فى البدرية"، أسمعها بكل تنويعاتها وأداءاتها من سيد درويش إلى فيروز وأميمة الخليل في لبنان وكل الأصوات الحديثة المتعاقبة في مصر والعالم العربي، وحتى بصوت حنان ترك في فيلم "الآباء الصغار" (2006) بطولة وإخراج دريد لحام.

"يلا بنا على باب الله يا صـنايعية/ يجعل صباحك صباح الخير يا اسطى عطيـة"

 في كلماتها البسيطة، ثمة حياة، حب، اهتمام حقيقي فيها، يعكس زمنًا مضى ويحكي عن راهن لم يتخلص كثيرًا من قديمه.

"صبح الصباح فتاح يا عليم/ والجيـب مافهشى ولا مليم"

 زمن يدور ويدور معه بشر يناضلون في الحياة، يعيشونها بكل ما يؤتيهم من أمل..

"ما تشد حيلك يا ابو صلاح/ إضربها صرمة تعيش مرتاح"

 لحن عذب ينسجم مع كلمات هي خط الدفاع في مواجهة شراسة الواقع وغلظته، لكن الأهم أن الفتى السكندري الذي قفز من شرفة القصر، التعبير المتداول للنقاد لوصف الثورة الموسيقية التي فجرها سيد درويش، بتخليه عن التخت والزخرفات والقواعد والثوابت والثقافة الموسيقية التقليدية، في مقابل موسيقى مصرية لها حالتها شديدة الخصوصية، هذا الفتى الجامح الذي حقق مزاجًا سماعيًا مغايرًا، منحازاً للصنايعية، المراكبية، الحمالين، العربجية، الباعة المتجولين، وغيرهم من طوائف شعبية؛ خصص لهم تجربته اللحنية بكلمات بديع خيري أو محمد يونس القاضي (مؤلف النشيد الوطني المصري(.

   توغل في قضايا كبرى وموضوعات اجتماعية بعذوبة ولطف وخفة ظل، قدم من خلالها الحالة المصرية بأبعاد متعددة عبرت عن مختلف فئات الشعب، لكنه أيضًا وعلى صعيد مواز صنع حالة فنية أكثر اتساعًا، لأنها شملت الأوبريتات والأدوار الغنائية التي نقلت اللحن الدرويشي من الموسيقى ابنة العامية والعوام، إلى الأغنية الدسمة واللحن المفعم بالتنغيم والطرب والتكرار، المتفاعل مع المكابدة العاطفية التي تبلغ أعلى نقطة في الطربية ثم تنتهي بختام رائق  وهاديء، من أدوار مثل: "في شرع مين يا منصفين"، "ضيّعت مستقبل حياتي" ، إلى "خفيف الروح بيتعاجب" و" أنا هويت وانتهيت " الذي مازال يتردد حتى الآن كواحد من أبرز الأدوار الغنائية والدرامية الطموحة في الغناء العربي.

أدواره تصل إلى نحو عشرة أدوار تقريبًا، مترعة باللوعة والغرام والهجر وغيرها من ملامح حالات الحب والعشق، وعلى أساسها اختار مقاماته الموسيقية، فحسب ما يقول الناقد فكتور سحّاب جعل المقام الأساسي واحدًا من المقامات التي كانت تستخدم نادراً في الغناء آنذاك ، وذلك لتلوين المقامات المُعتمدة والمُهيمنة، كالراست والبيّاتي والصبا والعجم.

قبل سيد درويش، عُرفت الأدوار الغنائية واشتهر بها مطربون كبار من أمثال عبده الحامولي ومحمّد عثمان، لكنه جاء ليصنع الحداثة، فثورته الموسيقية لم تكن فقط في ألحانه التي خرجت من رحم المجتمع المصري وعبرت عنه، إنما شملت نوتاته الموسيقية كلها وأصبحت الموسيقى المحرضة والملهمة، وفي رأيها أنها مازالت حتى راهننا هذا تتميز كأيقونة التجديد في موسيقانا، وسواء اعتمد على الأوركسترا الغربية أو الشرقية، فإنه النموذج الجريء، الجامح الذي لامس جوهر الموسيقى.

 

 







مشاركة



الموضوعات المتعلقة


لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة