بحرفية شديدة، استطاع المخرج خالد يوسف، فى مسلسله الرائع "سره الباتع" المأخوذ عن قصة للأديب الكبير الراحل يوسف إدريس، أن يتحرك بتوازن على خيط رفيع جدا، بين موروث ثقافى شعبى يجزم بالكرامات والمعجزات لأصحاب المقامات والأضرحة، ومعارضين لهذا الموروث، يصفون ما يقال عن "بركات" أصحاب المقامات بالجدل والشعوذة، لم يقع المخرج فى ورطة الانحياز لأى من الرأيين والاعتقادين، حيث ترك حسم الجدل مفتوحا، حتى لا يصنف أنه يعضد رأيا ضد الآخر، فى حين كان شغله الشاغل إلقاء الضوء على سيرة الشيخ حامد وبطولاته وقيادته للهبة الشعبية والوطنية فى قريته ضد الاحتلال الفرنسي.
إشكالية الخلاف هذه، لم يتوقف عندها خالد يوسف كثيرا، فالرجل لم ير فى الأضرحة واعتقاد البعض فى كرامات المشايخ وقدرتهم على الاستجابة للدعاء وتلبية المطالب والأماني، ومنهم السلطان حامد - أى غضاضة.
عدم انحياز صناع المسلسل لأى الاعتقادين ظهر جليا أيضا فى مشهد دار فيه نقاش بين اثنين من الفلاحين، يصر أحدهما على أن الشيخ جاء له فى المنام ليحثه على النهوض وبيع المحصول، وهو ما حدث وكسب ضعف سعر المحصول، وأرجع ذلك لبركات صاحب المقام، فى الوقت الذى يعارض كلامه الآخر، مؤكدا أن ما يقوله دجل وشعوذة، وأن المحصول هذا العام وفير، بدون بركات أو معجزات الشيخ حامد، وانتهى المشهد مفتوحا ولم ينحز لأى من الرأيين، بدون تصديق أو تكذيب، وترك لعقل المشاهد الاختيار وفق معتقداته وأهوائه.
كما جاء الحياد فى التناول أيضا، فى مشهد تساؤلات الطفل حامد، عندما ذهب للضريح وجلس يتحدث معه، ويخاطبه، هل هو حقيقة؟ ومعجزاته وكراماته موجودة فعلا، أم أنها أكاذيب، ثم تبع ذلك بطلب الطفل من الشيخ أن يأتى له فى المنام ليخبره بحقيقته، ليحسم الحيرة التى تدور فى رأسه، ثم بعدها ينام الطفل، ويصحو وقد وصل لسن الشباب، لينتهى المشهد قابلا لكل الاحتمالات، دون أن يفصح لنا، هل جاء له صاحب المقام فى المنام أم مازال ينتظر.
فى اعتقادى، أن ذكاء خالد يوسف فى مسلسل "سره الباتع"- خاصة أنه هو أيضا من وضع السيناريو والحوار- كان البعد عن جدلية الكرامات والخرافات التى تصاحب دائما سيرة أصحاب الأضرحة والمقامات، فلم يتح مساحة لدجل عقيم، كان سيأخذ بلب المشاهد لقضية أزلية، قديمة حديثة، ما بين الاعتقاد بكرامات ومعجزات أصحاب المقامات، وهجوم البعض على تلك المعتقدات ووصف ذلك بالدجل والخرافات والشعوذة، وهو ما كان سيربك الهدف الأهم، والمراد الأسمى بسرد قصة تكاتف وتلاحم أفراد الشعب المصرى فى ملحمة شعبية لطرد المحتل الغاشم، حتى وإن كان رأس القصة بطل يسمى حامد، تحول بعد ذلك إلى أسطورة تاريخية، يرويها الناس على مر العصور.. فسره الباتع كان أسطورته التى عاشت على لسان الناس، وتناقلتها الأجيال عن كفاحه ضد المستعمر الفرنسى حتى انتصر عليه وطرده من قريته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة