كان الدكتور هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية، فى طريقه إلى الرياض للقاء العاهل السعودى الملك فيصل يوم 8 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1973، فتلقى أثناء رحلته رسالة من البيت الأبيض تخبره بأن «الرئيس نيكسون ليس محتاجا فقط إلى إحراز تقدم بالنسبة لموضوع إنهاء الحظر البترولى، بل إنه أيضا محتاج إلى قدوم الملك فيصل لزيارته فى واشنطن، وهو يأمل أن يتم هذا الاجتماع فى وقت مبكر من الأسبوع المقبل»، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمود عوض فى كتابه «وعليكم السلام.. مصر وإسرائيل والعرب.. الجذور والمستقبل».
ذهب «كيسنجر» إلى الرياض فى إطار جولته بالمنطقة، بعد وقف إطلاق النار بين مصر وسوريا وإسرائيل للحرب التى بدأت يوم 6 أكتوبر 1973، وبدأت بلقاء الرئيس السادات فى مصر ثم الملك حسين فى عمان، وكان قرار حظر البترول على أمريكا وأوروبا أحد أكبر علامات التضامن العربى فى هذه الحرب، ويذكر محمود عوض اعتمادا على مذكرات «كيسنجر» ما جرى فى العاصمة السعودية حول ذلك، بالإضافة إلى مسألة قبول العرب للسلام مع إسرائيل.
يذكر «عوض» أن كيسنجر بدأ مع الملك فيصل بتناول أهمية قبول العرب للسلام مع إسرائيل وقبولها كدولة، فرد عليه الملك فيصل قائلا: إن السلام مع إسرائيل ممكن، ولكن فقط بعد توفر ثلاثة شروط هى أن تنسحب إسرائيل إلى حدود 4 يونيو 1967 على الجبهات الثلاث المصرية والسورية والأردنية، وقبول إسرائيل عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين شردتهم إسرائيل من ديارهم سنة 1948، وأن تتحول إسرائيل إلى دولة إسلامية يهودية.
يضيف «عوض» أن «كيسنجر» يصرخ فى مذكراته معلقا على ما ذكره العاهل السعودى: إن الملك فيصل كان يكرر لى باختصار نفس البرنامج الذى تطالب به منظمة التحرير الفلسطينية، لهذا رد «كيسنجر»: إن إسرائيل لا يمكن أن تقبل بهذه الشروط، فرد عليه «فيصل»: إسرائيل سوف ترضخ وتنسحب فى نفس اللحظة بالضبط، التى تدرك فيها أنكم ستتوقفون عن حمايتها واحتضانها.
يعلق «عوض»: لم يجد «كيسنجر» أى مجال لاستدراج الملك فيصل إلى فخ الحلول الجزئية، التى تجهض وتنسف التسوية الشاملة التى يريدها العرب، فالملك فيصل هنا يلتزم بالموقف العربى الموحد، وهو الإصرار على التسوية الشاملة التى تعيد إسرائيل إلى حدود يونيو 1967 على جميع الجبهات، لهذا استدار «كيسنجر» بالحديث إلى الموضوع الآخر، الذى يعنى الولايات المتحدة بشدة وهو حظر البترول العربى، وحاول «كيسنجر» أن يشرح للملك المأزق الأمريكى الذى أدى إليه هذا الحظر، فرد عليه «فيصل» بقوله: لسوء الحظ فإن مركز المملكة العربية السعودية أكثر حرجا، إننا نريد أولا دليلا عمليا على حدوث تقدم حقيقى بالنسبة لانسحاب إسرائيل الشامل، قبل أن نذهب إلى إخواننا العرب ونتقدم إليهم بأى اقتراحات، وقاطعه «كيسنجر» قائلا: لكن السعودية بلد صديق للولايات المتحدة، فرد عليه الملك فيصل: من أجل هذا بالضبط، فإننا لا نستطيع أن نتصرف بمفردنا.
ينقل «عوض» تعليق كيسنجر فى مذكراته: لقد فشل الحديث عن الجغرافيا السياسية مع الملك فيصل، فقررت أن أجرب معه مدخلا سيكولوجيا آخر، ولذلك قلت له: إنه من المؤلم بالنسبة لنا أن نتعرض للضغط من جانب بلد صديق، ونحن لن نستسلم لمثل هذا الضغط، رد عليه «فيصل» باختصار: إننى أعانى أكثر منكم، ولكن هذا موقفنا، قال «كيسنجر»: لكننا لا يمكن أن نبدو للعالم كما لو كنا نستسلم للابتزاز.
يضيف «عوض»: رد الملك فيصل على «كيسنجر» فى حزم قائلا: إن تفسيرك صحيح، ولكن لسوء الحظ فإن يد السعودية ليست طليقة فى هذا الموضوع بالذات، ما دام قرار فرض الحظر البترولى العربى لم يكن قرار سعوديا منفردا، ولكنه قرار اتخذته الدول العربية بالإجماع، ولذلك يجب أن تتم مراجعته بالإجماع أيضا. إن ما أريده هو أن تقدموا إلينا أسبابا مقنعة أقولها لزملائى حتى أقترح عليهم رفع الحظر.
يذكر «عوض» أنه فى هذه النقطة يقول «كيسنجر»: إننى حاولت بعد ذلك أن أقنع الملك فيصل بقبول حل وسط، فإذا لم تكن السعودية مستعدة لرفع حظر البترول كليا، فهى على الأقل تستطيع تخفيف هذا الحظر، فرد «فيصل» مبكرا: إذا كنتم تريدون رفع حظر البترول، فكل ما نريده هو انسحاب إسرائيل الكامل إلى حدود يونيو 1967، وعودة اللاجئين الفلسطينيين المشردين منذ سنة 1948 إلى ديارهم، قال «كيسنجر»: لكن الولايات المتحدة قد تعجز عن إرغام إسرائيل على ذلك.
على الفور رد الملك فيصل بقوله: حسنا، إننى أقبل منك هذا التفسير فى حالة واحدة، أن تخرج الولايات المتحدة إلى العالم علنا، وتعلن أن موقفها الرسمى هو ضرورة انسحاب إسرائيل الكامل إلى حدود 1967 والسماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.. إننا فى تلك الحالة فقط يمكن أن نفهمكم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة