من الظواهر الشائعة التي تحتاج تفصيلًا واستقصاءً في التداوُل اللغوي العربي المعاصر، إصرارُ الكثرة الغالبة على تذكير ألقاب المناصب والأعمال المُلحقة بأسماء النساء، بحجة وجود (قاعدة لغوية) تقول إن هذه الألقاب (لا تؤَنَّث)!
والواقع أن هناك الكثير مما يغيب على مَن يتّبعون هذه القاعدة دون تَدَبُّر. فصحيحٌ أن عادة أغلب قُدامَى العرب عدم إدخال علامة التأنيث على الصفات المشتركة بين المذكر والمؤنث؛ غير أن ذلك كان مَرَدُّه لديهم أن أكثر ما يوصَف بها المذكر، لظروف تقسيم المناصب والأعمال بين الرجال والنساء لدى العرب قديمًا؛ وهو ما ذكره "الفَرّاء" بقوله: "لأنه إنما يكون في الرجال دون النساء أكثر ما يكون، فلما احتاجوا إليه في النساء أجروه على الأكثر من موضعيه". وقد أجمع على ذلك، بخلاف "الفَرّاء"، كلٌّ من: "المفضل بن سلمة"، و"ابن الأنباري"، و"ابن سيده"، و"الزمخشري"، و"أبو حيان"، و"ابن عقيل".
الشيخ مصطفى عبد الرازق
غير أن آخرين أجازوا لحاق تاء التأنيث بألفاظ هذه الألقاب والمناصب؛ كأن يقال: "أميرة بني فلان". بل إن "ابن سيده" نفسه – وهو مِمَّن سبقت الإشارة إليهم من القائلين بالتذكير - استدل على جواز دخول التاء على الألقاب؛ بما سُمع عن العرب من قولهم: "وكيلات"، وقال: "فهذا يدل على جواز قولك: وكيلة"، كما ساق في ذلك شاهدًا شعريًّا، يتمثل في البيت التالي:
فلو جاءوا ببرَّةَ أو بهندٍ لبايعنا أميرة مؤمنينا
ومع تطور الزمن، وانفتاح الثقافة العربية على غيرها من الثقافات، وتفاعلها الحيوي مع ما استجَدّ من مِهَن ووظائف، اشتغل بها النساء والرجال، انتَفَى المُسَوِّغُ الباعث على تذكير ألقاب مناصب النساء، بزعم أن أكثر المشتغلين بها رجال!
لذا، فقد أقَرّ "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة، في جلسته الرابعة والأربعين، المنعقدة يوم 21 مارس من عام 1978، لحاق تاء التأنيث ألقاب المناصب والأعمال في وصف المؤنث؛ وكان نَصُّ قرار المجمع على النحو التالي: "لا يجوز في ألقاب المناصب والأعمال - اسمًا كان أو صفة - أن يوصَف المؤنث بالمذكر فلا يقال: فلانة أستاذ أو عضو أو رئيس أو مدير".
المتحف
والغريب أن كافة المتشبثين بتذكير ألقاب مناصب النساء يتجاهلون هذا القرار تمامًا، كما يتجاهلون حقائق أخرى، مستقرة منذ آمادٍ طوال في أمهات كتب التراث والأدب والفكر العربي. فقبل قرار المجمع بحوالي سبعة قرون، ذكر الرحالة العربي الفَذّ "ابن بطوطة" (٧٠٣ﻫ/١٣٠٤م - ٧٧٩ﻫ/١٣٧٧م)، في كتابه الأشهر "تحفة النُظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" ما يفيد أمرين مهمين: أولهما أن لفظ "وزيرة" كان اسمًا من أسماء النساء المعروفة في الأقطار الإسلامية لزمنٍ سابق! وهو ما نستخلصه من إشارته في كتابه المذكور إلى واحدة من الفقيهات المُحَدّثات المشهورات، وهي "وزيرة بنت عمر بن المنجا"، والتي أشار "خير الدين الزركلي" (1893 – 1976) لاحقًا في كتابه "الأعلام" إلى أنها كانت تُعرَف كذلك باسم (سِتّ الوزراء).
أما الأمر الآخر الذي يُستفاد من كتاب "ابن بطوطة": فهو أن لقب (وزيرة) كان معروفًا ومستخدمًا في الإشارة للنساء من متقلدات شؤون الحُكم والتدبير لدى المسلمين؛ وهو ما يُلاحظ بوضوح تام في سياق حديثه عن حاشية "الخاتون الكبرى"، زوج السلطان التتري المسلم "محمد أوزبك خان" قائد القبيلة الذهبية؛ إذ ذكر أن الخاتون تقعد في عربتها "وعن يمينها امرأة من القواعد تُسَمَّى أولو خاتون، بضم الهمزة واللام، ومعنى ذلك (الوزيرة)، وعن شمالها امرأة من القواعد أيضًا تسمى كُجُك خاتون، بضم الكاف والجيم، ومعنى ذلك (الحاجبة)".
أم كلثوم
وفي القرن الخامس عشر، نجد لدى المؤرخ المصري "ابن تغري بردي" (813 هـ / 1410م - 874 هـ / 1470م)، في كتابه "المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي" استعمالًا للقب (وزيرة)، في سياق ما ذكره عن شخصية "بغداذ خاتون بنت النوين جوبان"، التي وصف حالها بعد زواجها من ملك التتار بأنها "صارت عنده مكينة، لها الحكم في الممالك، ولها (وزيرة)".
وفي القرن السادس عشر الميلادي، نرى الفقيه المُفَسّر المصري "شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي" (المتوفى عام 977 هـ/ 1569-1570م)، يصف العين بأنها "(وزيرة) القلب"، في تفسيره "السراج المنير"، خلال شرحه للآية 53 من "سورة الأحزاب".
أما المفكر الأديب الفقيه الشيخ "مصطفى عبد الرازق" (1885 – 1967)، أستاذ الفلسفة الإسلامية، الذي تولى وزارة الأوقاف المصرية ثمانيَ مراتٍ، وتقلد مشيخة الأزهر ما بين عامَي 1945 و1947، فيخاطب الأديبة "مي زيادة" (1886 – 1941)، في رسالة أرسلها لها عام 1927، بقوله: "سيدتي الآنسة العزيزة، إن لم تكوني وزيرة، ولا من المستوزرات، فإنك أميرة النهضة النسوية في الشرق...". فهل نحن أبلغ من "مصطفى عبد الرازق" و"مي زيادة"؟!
الأعجب من ذلك أن المولَعين بإطلاق لقب (وزير) المذكَّر على مَن يحمِلنه من النساء (الوزيرات)، يتغافلون عما رواه "ابن إسحق" (80 هـ - 699م / 151 هـ - 769م) في السيرة النبوية؛ إذ وصف أم المؤمنين السيدة "خديجة بنت خويلد" رضي الله عنها بقوله: "وكانت خديجةُ وزيرةَ صِدقٍ على الإسلام"، وذلك في ختام روايته لوفاتها و"أبي طالب" في عام الحُزن. وقد نقل عنه هذه العبارة المُحَدّث والإمام الحافظ "شمس الدين الذهبي" (673 هـ - 748 هـ / 1274م - 1348م)، في كتابه "سِيَر أعلام النبلاء". كما نقلها المفسر المؤرخ الشهير "ابن كثير" (701 هـ - 1301م / 774 هـ - 1373م) في أحد هوامش كتابه "البداية والنهاية".. فهل نحن أشد فصاحةً من "ابن إسحق"، ومن "الذهبي"، ومن "ابن كثير" وأعلم منهم بالعربية، حتى نشير لأيَّة وزيرة بأنها (وزير)؟!
إن الأخذ برأيٍ واحدٍ في هذه المسألة، لمجرد ذهاب كثرة من الأقدمين هذا المذهب؛ بسبب ظروف اجتماعية كانت شائعةً وقتها، يوقعنا نحن أبناء العصر الحالي في بلبلةٍ لا نهاية لنتائجها، وإلى ارتباكات لغوية مضحكة؛ يكفي فقط أن تتأمل في تناقض الجُمَل التالية: "تقول الوزير الفرنسية فلانة!"، أو "ناقشَت الأستاذ الدكتور فلانة رسالة علمية"! أو تأمل هذه المفارقة اللغوية الصارخة: "الأستاذ الدكتور فلانة، الناشطة النسوية، أو رئيس جمعية المرأة!"، لتعلم أن التشبث الأصَم بقاعدة تنقُضُها كثرة من الشواهد، وتستدعي إعادة النظر فيها تطورات العصر، إنما هو تشَبُّث أجوَف، جديرٌ بأن يجرنا إلى إشكاليات حقيقية في صميم بنية الجُملة العربية ودلالتها. بل إن هذا التشبث نفسه ليضعنا في موقفٍ حَرجٍ نبدو معه وكأننا غافلين عن حقائق الواقع؛ وبخاصةٍ بعد أن صار تقَلُّد المرأة لكافة المناصب واشتغالها بكافة الوظائف حقيقةً لا سبيل لدحضها، مما لا يعود معه مسوغ منطقي لتذكير ألقابها بزعم أن توليها لهذه المناصب (نادر!).
فالتشَبُّث الشكلي بذلك لن يُسفِر إلا عن نتائج سبق وأن ضحكنا على أمثالها، حين عالجتها قريحة "أبو السعود الإبياري"، في فيلم "بنات حواء" عام 1954، في المشهد الذكي الذي ظهرت فيه "مديحة يسري" وهي تلقي كلمة على عضوات جمعية "المرأة = الرجل"، قائلةً لهم: "حضرات الزملاء!"، وبعد أن اعترض أحد الحضور من الرجال، إذا بها تخاطبهم مرة أخرى: "حضرات الزميلات المحترمين!"، ليعترض الرجل ثانيةً، فيهب الرجال هاتفين: "المحترمات!"، وتصيح النساء: "المحترمين!"، وهكذا: "مات! مين! مات! مين!"، إلى أن يفيق أحد النيام على الصياح متسائلًا: "هو مين اللي مات؟!".
وبصرف النظر عن هذا السياق الكوميدي، فإن التشبث بهذه الظاهرة العجيبة، لمجرد أن الأقدمين رأوا اتّباعها، يورطنا في تهمة التغافل عن عشرات، بل مئات، من قُدامَى مشاهير اللغويين، والأدباء، والفقهاء، والمفسرين، والمؤرخين، وغيرهم من أئمة الكُتّاب العرب والمسلمين، مِمَّن وردت في مؤلفاتهم استعمالات صريحة للألقاب المؤنثة، سأكتفي هنا بِسَوق بعضها على سبيل الأمثلة الدالّة، التي تكفي لإثبات رُكوننا للشائع من القول دون مراجعة أو تمحيص:
إننا إذا رجعنا إلى بعض نصوص الإمام "ابن الجوزي" (510هـ/1116م - 597هـ)، فسنجده قد ذكر الفقيهة "أمة الواحد بنت القاضي أبي عبد الله بن إسماعيل المحاملي" المتوفاة سنة 377هـ، وذكر عنها أنها كانت تفتي مع "أبي علي بن هريرة"، وذلك في كتابه "صفة الصفوة" جـ1، ص 652. فماذا نقول عن هذه الفقيهة المهمة إذا رجعنا إليها؟ هل نكتب: "قالت الفقيه المفتي أمة الله!"؟ أم نؤوب إلى المنطق ونكتب الجملة الأقرب إلى التعقُّل: "قالت الفقيهة المفتية أمة الله"؟
كذلك الحال إذا نظرنا في نصوص "الخطيب البغدادي" (392 هـ/1002م - 463 هـ/1071م)، وتحديدًا في كتابه "تاريخ بغداد" المجلد 14، ص446، حيث يصف "خديجة الشهجانية" بكونها (واعظة). فهل نُعَدِّل نحن نصوصَه، فنُصدرَ بالتالي طبعة جديدة من كتابه نصفها فيها بأنه (الواعظ خديجة!)، لنُثبت لأنفسنا أننا أفصح من "الخطيب البغدادي"؟!.
أما لقب (الشيخة)، وهو من الألقاب الدالة على النفوذ، والحُكم، والانتماء لكُبريات العائلات، فالشواهد فيه أكثر من أن تُحصى، في الدلالة على المكانة القَبَليّة والاجتماعية في صفوة الأُسَر العربية، حتى الآن، ويكفي فقط أن نتأمل في عدد حاملات لقب (شيخة) من كرائم البيوت العربية الشهيرة. وبخلاف ذلك كان الوصف (شيخة) معتمدًا من قِبَل مشاهير الفقهاء والمُحَدّثين، ومن أشهرهم "الحافظ بن حجر العسقلاني" (773 هـ/1371م - 852 هـ/1449م)، الذي نَوَّه في كتابه "إنباء الغمر بأبناء العمر" بـ" فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي المقدسية ثم الصالحية أم يوسف"، وذكر عنها أنه قرأ عليها من الكتب والأجزاء بالصالحية، ووصفها بقوله: "ونِعمَ (الشيخة) كانت!".
أما أشهر كتب الأدب العربية، "ألف ليلة وليلة"، فستفاجئنا فيه "شهرزاد" بما حكته في الليلة رقم 943، في قصة "عبد الله البري وعبد الله البحري"، من أن "الملكة أكرمت زوجة عبد الله البري، وأنعمت عليها وجعلتها (وزيرة)". سيكون علينا إذًا أن نقول لها: عيب يا شهرزاد! الألقاب لا تؤنث! الصواب أن تقولي إن: "(الملك!) أكرمت زوجة عبد الله البري فجعلتها (وزيرًا!)".
علينا كذلك أن نراجع "العقاد"، الذي كان بالمناسبة، بخلاف مكانته الفكرية والأدبية، أحد أقدم أعضاء مجمع اللغة العربية! لأنه ذكر في كتابه "المرأة في القرآن الكريم" أن النساء كان من بينهن (قائدات) للجُند، فيجب أن (نصحح) نحن ذلك! في طبعة جديدة إلى أنه كان من النساء (قُوّاد!)، أو (قادة!) للجُند.
العقاد
ثم ماذا عن الكاتب الناقد المصري "عباس حافظ" (18898 – 1959)؟ حين خلع في كتابه عن الزعيم "مصطفى النحاس"، الصادر عام 1931، نعوتًا مؤنثة بالجملة على نساء شغَلن مناصب شتى! فذكر عن "كوربت آشبي" أنها (زعيمة) الحركة النسوية في إنجلترا و(رئيسة) الاتحاد الدولي للحرية والسلام، ووصف "ساروجيني نايدو" بأنها (الزعيمة) الهندية، ووصف "مس بونفيلد" بأنها (وزيرة) العمل البريطانية، ووصف "خالدة أديب" بأنها (وزيرة) المعارف في تركيا. ولم يخرج له وقتها من فقهاء اللغة وأدبائها من يُخَطِّئه أو ينعى عليه هذا الأسلوب.
الأعجب من كل ما سبق إصرار كثرة كاثرة على وصف المرأة بأنها (أستاذ)! وبخاصة في المُكاتبات الأكاديمية؛ التي يتفشى فيها تعبير (الأستاذ الدكتور فلانة!). ويتناسى مستخدمو هذه الصيغة أمورًا مهمة؛ في مقدمتها إجماع أئمة اللغة وفقهائها على أن لفظة "أستاذ" لفظة غير عربية الأصل، وأنها انتقلت للعربية من الفارسية على أشيَع الآراء، وبذلك فلا مجال لِلَيّ عنقها وحبسِها في قالب قاعدة لا تنتمي إليها. يضاف إلى ذلك أن معنى "أستاذ": الماهرُ في صناعةٍ يُعَلِّمها غيرَه. فهل المهارة حِكر على الرجال دون النساء؟! وهل الرجال هم فقط من يحتكرون تعليم المهارات غيرَهم؟!
لقد كان الأديب الفارِه "مصطفى صادق الرافعي" (1880 – 1937)، وهو مَن هو اقتدارًا في البيان وفنون اللغة وبَصَرًا بأسرارها، يستخدم وصف "أستاذة" في كتاباته دون حرج، ومِن ذلك ما نراه في أحد أشهر مؤلفاته، وهو كتابه النثري البديع "وحي القلم"، حين خاطَب المحامية، على لسان النائب العام وعلى لسان رئيس الجلسة، بنداء: "يا أستاذة"!
ثم ماذا نقول فيما نجده عند العملاق "العقاد"، في استعمالاته للفظة (أستاذة) في العديد من نصوصه؟! وكذلك لفظة (كتورة)، التي وردت في كتاباته كثيرًا، ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر: في الفصل السابع من كتابه "ويسألونك"، الصادر عام 1947، حيث يناقش علاقة العامية بالفقر، فيذكر في سياق حديثه ما يلي: "قام في إحدى الحفلات خلاف بين الدكتورة نعيمة الأيوبي والأستاذ كامل كيلاني: كان من رأي الدكتورة أن نتكلم باللغة التي نستعملها في كل المناقشات..". وكذلك في الفصل المعنون "الإسلام والعصر الحديث"، بكتابه "ما يقال عن الإسلام"، الصادر عام 1963؛ حيث يحلل كتابًا لأستاذة أكاديمية في جامعة فرانكفورت، فذكرها مرتين: الأولى بصيغة: "الدكتورة أليس ليختنستادتر"، والثانية بقوله: "الدكتورة صاحبة الإسلام والعصر الحديث".
أما الأديب "أحمد حسن الزيات" (1885 – 1968) – وقد كان بالمناسبة عضوًا في مجامع اللغة العربية في كلٍ من: القاهرة، ودمشق، وبغداد – فلم يستخدم فقط لفظة (دكتورة) في نصوصه؛ بل أضاف إليها لفظة (ماجستيرة)، للإشارة إلى الحاصلات على درجة الماجستير من السيدات والفتيات في الجامعات العربية، ومِن ذلك ما ورد في مقال له بعنوان "المرأة والأدب"، نُشِرَ في العدد 240 من مجلة "الرسالة"، بتاريخ 7 فبراير 1938، يقول فيه: "وهل تستطيع أن تعد في أقطار العربية كلها أكثر من الدكتورة أسماء فهمي، والماجستيرة سهير القلماوي، والفضليات الكواتب ابنة الشاطئ وجميلة العلايلي وفلك طرزي ووداد سكاكيني؟..".
وكيف الحال كذلك حين نرى الأستاذ العَلّامة "محمود محمد شاكر" (1909 – 1997) – وهو المرجع اللغوي الذي كانت ترتعد أمامه فرائص أعتى البُلَغاء والكُتّاب – يستخدم الصيغة نفسها: (أستاذة)!
فإذا انتقلنا إلى كتابات واحدٍ من كبار النُحاة العرب المُحدَثين، وهو "سعيد الأفغاني" (1911 – 1997)، لوجدناه يستخدم الصيغة المؤنثة (أستاذة) في نصوصٍ عدة، منها مقال نشره عام 1939 في مجلة "الرسالة"، عن أم المؤمنين السيدة "عائشة" رضي الله عنها، بعنوان "أستاذة الصحابة". وكذلك فعل الفقيه الأديب القاضي "علي الطنطاوي" (1909 – 1999)؛ الذي وصفها، رضي الله عنها، بأنها "أستاذة عصرها"، في مقال له عن المرأة المسلمة، نشره عام 1952.
ثم ماذا عن البديع "نجيب محفوظ"، الذي افتتح الحلم الثامن والعشرين بعد المائتين، من مجموعة "أحلام فترة النقاهة"، بقوله: "هذه السيدة هي أستاذة أولادي..."؟!
إننا لو ظللنا مغرمين بتذكير المناصب، فسيكون لزامًا علينا أن نتجاهل ما استقر في لغة العرب، وما رسخ في كتب التاريخ، من مناصب مؤنثة، نستعملها نحن أنفسنا، للمفارقة الساخرة! نعم، سيكون علينا أن نحذف من كتب اللغة والتاريخ مناصب مؤنثة سارية الاستعمال قديمًا وحديثًا، مثل: ملكة، وسلطانة، وأميرة، وشيخة، وإمبراطورة، أو سيكون علينا أن نقع في شَرَك تطبيق القاعدة بما يؤدي لنتائج مضحكة؛ فنقول: (الملك كليوباترا!)، و(الملك نازلي)! و(الملك فريدة!)، و(الملك إليزابيث!)، ونقول: (السلطان شجرة الدر!) أو (الملك العظيم شجرة الدر!)، و(السلطان مَلَك!)، و(الأمير فوزية!)، و(الإمبراطور فرح ديبا!).
ثم أليس الإصرار على تذكير ألقاب النساء المشتغلات بالعمل العام لونًا من ألوان هضم حقوقهن الأدبية، ونوعًا من أنواع الغضّ من مكانتهن؟! نعم هو كذلك؛ إذ إن المتشبثين بذلك – والعجيب أن منهم مَن يظنون أنهم بذلك يساوون بين الرجل والمرأة! - إنما يُقِرّون إقرارًا ضِمنِيًّا بأن المرأة تظل تستمد مكانتها من مرجعية ذكورية، بغض النظر عن كونها شقت طريقها بجهدٍ وعناءٍ لتصل لهذه المكانة، وبغض النظر عن تحليها بالمواهب والكفاءات التي قَيَّضَت لها ذلك! لنظل نحن نشهر في وجهها هذه القاعدة اللغوية، وكأننا نقول لها ضِمنًا: "ولو! فمهما فعلتِ أو ارتقَيتِ أو اجتهدتِ فلن نشير إليكِ إلا بصفتك حاملةً لقبًا مذَكَّرًا!". ألا ما أجملَ ما أوردَه الشيخ الأكبر "محيي الدين بن عربي"، في واحدة من رسائله البديعة؛ حين ذهب إلى أن "كل مكانٍ لا يؤنَّث لا يُعَوَّل عليه". فما بالُنا لا نؤنِّثُ مكان المرأة ليصير (مكانة)؟! أفلا نراها مستحقةً هذه المكانة؟!
أحسَب أن القريحة الجمعية الشعبية أكثر نُضجًا وعافية، حين تخلع على كل حالٍ ما يناسبها في هذا الباب. جرّب مثلًا أن تُخاطب إحدى بائعاتنا الشعبيات (الجَدَعات) بأنها (المعلم فلانة!). في الأغلب ستعود أدراجك بيافوخ مفتوح! أو ستنسحب عَدوًا بينما تُدَوّي من خلفك ألفاظ ستبحث عن معانيها في المعاجم دون جدوى!
وختامًا، فلا أرى ما أترك معه مجالًا للتأمل خيرًا من صورتين نادرتين، إحداهما ملتقطة في منتصف ديسمبر من عام 1944، لسيدة الغناء العربي – أم تُرى نقول: (سيد الغناء العربي!)؟ - "أم كلثوم"، حين كانت (نقيبة) للموسيقيين. والصورة مشفوعة بتعليق يشير إليها بلقب (النقيبة) مرتين، وبصفة (الرئيسة) مرة واحدة.
أما الصورة الأخرى، فيعود تاريخها إلى أواخر عام 1950، حين احتُفِل في مقر المتحف المصري للفن الحديث بتنظيم متحف مؤقت، إحياءً للذكرى الثالثة لـ(زعيمة) النهضة النسائية السيدة "هدى شعراوي" (1879 – 1947).
فيا صديقي، لا تثريب عليك إذا قلت: (رئيسة)، و(زعيمة)، و(وزيرة)، و(نقيبة)، و(عميدة)، و(أستاذة)، ولو عارضَكَ المتشبثون بالقاعدة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة