أيمن عيسى

كن علام عبد الغفّار.. أو مُت وأنت تحاول

الخميس، 26 يناير 2023 03:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

الآن أعرف مأزق الكلمات.. أعرف ورطة اللغة المحالة.. وأنا الذي أخترع الرسائل

تذكرت تلك الكلمات لنزار قباني، بينما أدخل يومي الثالث عاجزًا عن جمع مصطلحات تليق برثاء الفقيد، وظننت أن مفرداتي أعلنت الحداد ثلاثًا، وستعود، وما لبثتُ إلا أن أفقت على واقع أني بالفعل فقدت كل أدواتي الكتابية بالكلية، بل فقدت اللغة، وأن حدادًا زار نفسي وقلمي، فأجبرهما على التوقف.. لكن كيف أعجز عن الكتابة عن علام عبد الغفّار، ذاك الفتى الملهم الذي أعرفه جيدًا، وأثق في القدرة على كتابة مجلدات عنه؟

تعرف يا علام أني أرتجل عندما أتوتر، وأرتجل عند الغضب، وأرتجل حينما أحزن، غير أنك لم ترنِ حزينًا كما أنا عليه الآن، ومن ثم أعتذر لك أولًا عن عدم تنسيق الكلام عنك وترتيبه، كوني أعرف كم كنت منظمًا في كل تفاصيلك، لكني يا صديقي بالكاد أستجمع أعصابي، وأحاول استيعاب واقعنا بدونك، فلا ترهقني من أمري عسرًا، واسمح لي بالحديث عنك ارتجالًا، وربما يكون الارتجال أكثر بلاغة، أو أكثر صدقًا، ولتكن بداية الكلام لك، ثم اسمح لي أحدث الناس عنك، وأخبرهم بما لم يعلموا.

هل أخبرتك يا علام من قبل أنك ضمن تلك الأشياء الثمينة جدًا التي لا تتحدد قيمتها بدقة إلا بعد فقدانها؟.. فلسفة الفقد تحتم عليَّ إخبارك بذلك الآن، بينما لا أستطيع الحصول على رد منك، أو حتى ابتسامة رضا من تلك التي كنت تمنحها لي عند كل شكر لك على خير تقدمه.

تعرف يا علام اللحظات الجميلة التي ندرك المعنى الحقيقي لسعادتنا فيها بعد انقضائها؟.. ها نحن الآن نعيش هذا الواقع، وكل منا ينظر في عين الآخر، والأسئلة موحدة بذات المعنى والمضمون.. هل بالفعل رحل علام؟.. هل فقدناه؟.. ألن يعود كما وعدنا؟.. كيف، وقد عاش بيننا وفيًأ، يحضر حينما نحتاجه، ويتواجد حيث ننتظره، ولم يخلف يومًا الزمان، ولا المكان، ولا الموقف؟

الآن تغمرنا روحك وتعيش داخلنا وتؤثر فينا، ولا زلنا نبحث عن صوتك وابتسامتك فقط، نحن بالفعل لا ينقصنا منك سوى هاتين، أما أنت فتركت أثرًا جميلًا، وإرثًا كبيرًا، جميعنا يذكر الأثر ويتذكره، ونعرف قيمتك، أما الإرث فكنت أتمنى لو تستطيع فتح عينيك للحظات، لترى كم الأشياء الجميلة التي تركتها، مع كل حديث عن ذكرياتنا معك، وكم كنت رجلًا جميلًا مهذبًا يا علام.

علام ذلك الشخص المرح جدًا دون سفه، والجاد كثيرًا بلا كآبة، ضمن هؤلاء الذين تشعر معهم بالتقصير دائمًا من فرط العطاء، ومن تثق في إخلاصهم دون شك، وتحب البقاء معهم دون ملل، فكل ما يأتي من علام خير في المطلق، وبدون فرق في التسمية والتوصيف، أنت معه في أمان دائم، كونك في حضرة شخص مسالم، شديد الطيبة والأدب، حسن الخلق، تنعدم تمامًا احتمالات الأذى منه ومعه.

في حضرة حياة علام عبد الغفار، عليك التأدب عند الحديث عن مشاكلك، وصعوبات حياتك، فأنت في حضرة فتى نحيف البنية، عظيم المآسي، عملاق الإرادة، أوتي الصبر الجميل، أمام ما يعانيه تشعر بالضآلة أنت ومشاكلك، ثم أن ابتسامة علام "علامة" لا تخطئها العين، ولا تخطئ هي طريقها نحو القلب، وهي ذاتها التي يحكي ويواجه بها صعوبات الحياة، ويمنحك الطمأنة، والصبر، والحكمة، والمواساة.

في العمل، يحب الجميع هدوء، وصبر، وحكمة، وسرعة بديهة، ويقظة علام عبد الغفار، وكان الزميل خالد سنجر عندما يتحدث عن التعامل مع رؤساء الأقسام، يقول إن علام يجبره على الإنهاء الفوري للجدل من فرط أدبه، حيث عندما ينادي عليه يا علام فيه مشكلة، يكون الرد الفوري أولًا "أنا آسف"، وبعدها يسمع المشكلة، دون الدخول في جدل من على حق، ومن على باطل... ويسمي الزملاء في الديسك ذلك بجملة "الرد على طريقة علام عبد الغفار".

شاءت الأقدار أن تكون الشهور الأخيرة للرحلة القصيرة، هي الأقرب بيننا، رغم ما سبقها من زمالة وصداقة، إلا أنها كانت سببًا في التعرف على كثير مما لا يظهر من حياة هذا الرجل، ودون تفاصيل أستطيع القول إننا فقدنا كنزًا إنسانيًا كبيرًا، قلما تجود به الأيام، ولن يعوضه الزمان، للدرجة الملهمة التي تجعلني أقول لنفسي "كن علام عبد الغفار، أو مت وأنت تحاول"، فقد منحني القدر التعرف أكثر على هذا الإنسان العظيم، وسواء كان ذلك إمعانًا في الحزن، أو دعوة للصبر، أو نفحة من الحكمة، إلا أنه اتساقًا مع الخط الذي رسمه الفقيد في حياته، أن كل ما يأتي منه خير، فقد أوتيت خيرًا كثيرًا في أيامنا الأخيرة لحياته، لكني فقدت مصدر كل ذلك مرة واحدة، ولم يتبق سوى الحزن، لذا تتوه كلماتي، ويتضاعف حزني.

حاشا لله أن تكون دعوة للقنوط، ولكن الله أباح للأنبياء الحزن على فقد أحبتهم، وقال الرسول الكريم في وداع إبراهيم "إنا لفراقك لمحزونون"، وقبله حزن النبي يعقوب على فقدان محتمل ليوسف، حتى ابيضت عيناه، فكيف حالنا مع الفراق المؤكد للأحباء، ولم نؤت من الصبر والحكمة ما أوتي الأنبياء، فاللهم جبرًا لقلوبنا، وأفرغ علينا صبرًا، وألحقنا بمن سبقونا إليك راض عنا وعنهم.. لروحك السلام يا علام.







مشاركة



الموضوعات المتعلقة

متى يصمت موسيماني؟

السبت، 11 يونيو 2022 12:23 م

قانون احترام الشارع

الأحد، 20 فبراير 2022 08:48 ص

في سيرة "التعافي"

الثلاثاء، 15 يونيو 2021 01:44 م

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة