9 سنوات على انتفاضة الشعب والتقاء إرادة القوى السياسية والمؤسسات الوطنية.. الثورة أنقذت مصر من مصير أسود رسمته جماعة الإخوان وتيارات التطرف واستعادت الثقة والتوازن وأسّست لبناء جمهورية جديدة
مسيرة التعافى رمّمت الشقوق وسدّت الثغرات وفتحت باب الحوار والتئام التحالف مُجدّدا على أرضية صُلبة ورؤية مُستقلة لا تنبع من مصالح أو اعتبارات عابرة لحدود الوطن
كان البلدُ بكامله فى مهبِّ الرِّيح. ثلاثون شهرًا تقريبًا ورأسُ مصر على عقبيها، ولا يوم يبدأ فيها ونحن نعرف نهايته، تتواترُ الحوادث حاملةً معها سيلاً من المفاجآت، وتتكشَّف النوايا والتحالفات كُلّما اقتربنا من مَغنمٍ أو منفعةٍ مُمكنة. اعتزل فريقٌ من أهل السياسة، وتقدَّم فريقٌ آخر، وتلوَّث كثيرون ببكتيريا الذّيوع والمصالح، فتكاثر المُتدافعون رافعين رايةَ الثورة، فى ظاهرها شعاراتٌ بيضاء، وفى باطنها دُوِّنت مطامع وأغراض شخصية وتحالفات غير منطقيَّة. وضعت القوى السياسية قطارَ الحدث على قضبانٍ اختاروها ورسموا مسارها بإرادتهم وتوافقاتهم، ثمَّ اكتشفنا لاحقًا أننا نندفع فى اتّجاهٍ خاطئ. من هنا كانت الثورة ضرورةً؛ لا على فسادٍ واستبدادٍ تعاظما بوجود الإخوان فى السُّلطة فقط، ولكن على سياقٍ مُشوَّه سهَّل للجماعة استلابَ المشهد، وحمَلَهم إلى واجهته. باختصار؛ كانت 30 يونيو ثورةً على حالةٍ كاملةٍ، تستدعى الإطاحةَ بالسُّلطة الغشوم، والعملَ على إعادة ترتيب البيت وإصلاح قوانينه وضبط توازناته. لا يُمكن أن تسير السفينةُ بتغيير الشِّراع فقط، طالما كان فيها ثُقبٌ أو سوسٌ ينخر البدن!
رغم كلّ ما يُمكن حسبانه على أسباب يناير 2011 ومُحفّزاتها، كان انسداد قنوات الاتصال بين الدولة والشارع، أو تراجع كفاءتها، دافعًا لنقل اللعبة السياسية إلى رقعةٍ خشنة، تتضخّم فيها المواقف وتتصادم الإرادات، بعيدًا من أعراف السياسة وما تسمح به أدواتها وتقتضيه من إدارة صراعات الأيديولوجيا وتنظيماتها من جانب، وتناقضات النسيج الاجتماعى من جانب آخر، بغية الوصول بالدولة والناس إلى مرفأ آمن. يمكن القول إن مصر عاشت اختناقًا سياسيًّا تسبّبت فيه النُّخب، من دوائر السلطة والمُعارضة على السواء، أفضى فى النهاية إلى انفجار كان عفويًّا باردًا فى زاوية، ومُلتهبًا مقصودًا فى زوايا أخرى، كما فتح أبوابًا وسيعة سمحت لبعض الأطراف بالقفز على الحدث واختطافه، وصولاً إلى محاولة اختطاف الدولة نفسها!
فى بادئ الأمر حاول الجميع الإيحاء بأن هناك حوارًا يجمعهم، بينما كانت الصراعات تنمو وتستشرى وتأكل السياسة وتنظيماتها ونسيج المجتمع أيضًا، بالتزامن مع جهودٍ ضخمة - خفيّة ومُعلنة - لإرباك المجال العام ورفع منسوب الفوضى؛ بغرض الضغط على أجهزة الدولة، وسلب الناس إحساس الأمان، وتهيئة الساحة لقبول الهيمنة المُجهّزة سلفًا من جانب فصيل كان يرى نفسه الأقوى والأحق بالسلطة. لاحقًا برزت التناقضات وتتابعت الصدامات، فمن عملٍ وتنسيق بين الإخوان وبعض تيارات اليسار والناصريين والقوى الليبرالية، إلى تقاطعات واضحة وتعارضٍ حادٍّ فى الرؤى والأهداف. بدت ملامح الرِّباط المُشوّه و"تلفيق التوافق" بدءًا من أيام التظاهر الأولى فى الميادين، وتتابعت عبر عديد من التحالفات والاتفاقات والوعود وتجمُّعات الشباب والأحزاب والاجتماعات المفتوحة والمُغلقة. وصلت تلك الصيغة إلى ذروتها نموذجًا داخل ائتلاف شباب الثورة والتحالف الديمقراطى وبعض أحزاب جديدة تأسّست باتفاقات مُضمرة، وقديمة جرى اختراقها على نطاقات واسعة أو محدودة، ولامست أعمق نقاط القاع مع إطلاق جبهة الإنقاذ ورفض الإعلان الدستورى وأخيرًا إطلاق الشباب لحملة "تمرّد" سدًّا للفجوة وعلاجًا لقصور النخبة المُعارضة، وبين تلك المحطّات مُسِخَت أفكار وتشوّهت وجوه وتاهت أحزاب وتفكَّكت تنظيمات، وكشّر الإخوان وحلفاؤهم عن أنيابهم السوداء وما يُضمرونه للبلد والناس!
بعيدًا من تلال الحكايات الساخنة فى الذاكرة، وقفزًا على تفاصيل لا حصر لها ملأت الفترة من يناير 2011 حتى ربيع 2013 تقريبًا، كانت الأزمة الكبرى فى الاختناق السياسى، وفى أن النافخين فى ناره كانوا من السَّاسة ومَن يُفترض فيهم أن يقطروا العربة لا أن يضعوا العصىّ فى عجلاتها، كما كانت ماثلةً أيضًا فى رغبة تيار أن ينفرد بالمشهد، لا على مُشتركٍ شعبىٍّ صُلب، ولا وفق مُدوّنة وطنيّة واضحة، بل عبر خلق توتُّرات دائمة، ودفع الدولة إلى مواجهة الشارع، ووضع الجميع على صفيح ساخن. كان المطلب المُلحّ والحلّ العاجل إذن أن نستعيد الحوار، وهو ما ساعد على تلاقى الإرادات فى 30 يونيو والسَّير باتجاه إنقاذ الدولة، لكن ظلّ الشقُّ الثانى غائبًا، وتحديدًا أن تُدار السياسة على أرضيّة راسخة، وفق سياقٍ مُتّزن رشيد، وفى مناخٍ طبيعى لا تُقوّضه الفوضى ولا تُعطّله الأزمات، يعى الظرفَ ويستجيب للتحدّيات؛ لكنه لا يجبُن ولا يفقد الطموح، ويُجيد تربيةَ الأملِ وتحقيق الأحلام، أو على الأقل التبشير بها؛ حتى لو قضت الأحوال والضغوط أن تتأخّر أو تتباطأ مسيرتُها قليلاً!
الطريق إلى الثورة
استهلكت الشهور اللاهثة بعد يناير 2011 رصيد الأمل والطمأنينة فى نفوس الناس، وراكمت مخزون الخوف والهلع أمام عيونهم. لم يُحقّق مُتصدّرو المشهد الثورى المشحون ما وعدوا به من أحلام الحرية والرخاء، ولا حافظوا على حالة الاستقرار التى كانت قائمة، وأنفقوا جلّ طاقتهم فى صراعات جانبية ومصالح شخصية؛ راضين بالعجز أمام الإخوان والصمت على تغوّلهم واستبدادهم بالوطن. كانت الرسالة واضحة للجميع، ووعاها عوام المصريين؛ فبشّروا بها وعملوا من أجلها. طرحت فكرة الثورة نفسَها على الطاولة ضرورةً واجبة، أو اختيارًا وحيدًا لا بديل له، وآية ذلك أن ملايين ممّن لم يعرفوا السياسة أو يُمارسوها استجابوا للحالة، واحتشدوا من أجلها، بدءًا بجمع توقيعات "تمرّد" الرامية إلى تقويض هيمنة الجماعة وحُلفائها، مُرورًا بتعبئة الشوارع على امتداد مصر فى 30 يونيو وما بعدها، ووصولاً إلى احتضان بيان 3 يوليو ثم تفويض المؤسَّسة العسكرية وقائدها العام وقيادة الفترة الانتقالية فى 26 يوليو بمُواجهة الإرهاب واستعادة الدولة من مسار الضياع.
لم يكن مُنتظَرًا ممّن أدخلوا البلاد دوّامةَ الفوضى أن يُخرجوها، وتضخَّمت سوداوية الصورة بعدما لعب الإخوان بالقوى السياسية كلها بدءًا من استفتاء مارس، ثم الانتخابات البرلمانية فالرئاسة ومؤتمر فيرمونت وتشكيل الحكومة وجمعية الدستور، وأخيرًا الانفراد الكامل بالمشهد، واستعراض العضلات على الجميع، والتهديد المباشر تصريحًا وتلميحًا، والسعى إلى تقويض الدولة ومُؤسَّساتها. وجد الشارعُ نفسَه أمام خيارين: إمَّا أن ينساق وراء روافع سياسية عاجزة عن إدارة الصراع والتصدّى للغول الأسود الذى انحسرت عنه عباءة تنظيم حسن البنا، أو الإمساك بزمام الأمور بمُبادرة شبابية والتفافٍ شعبىّ. وكما احترمت المؤسَّسات الدستورَ واختيارَ الناس فى صناديق الاقتراع، كان واجبًا أن تنحاز إلى إرادة الشارع وقد بدت الخطورة واقعًا لا خيالاً ولا مُجرّد مخاوف عابرة.
من هنا تجسّدت 30 يونيو احتياجًا حقيقيًّا لكبح عربة الوطن المندفعة على المُنحدر، ولَجْم أعداء الداخل وقناة اتِّصالهم المفتوحة على أجندات خاصة وقوى خارجية، وإنهاء حالة الرَّخاوة السياسيّة والتنفيذيّة سعيًا إلى استبقاء الدولة كيانًا وجسدًا وفاعلية مُؤسَّسية، وترميم شروخ المجتمع ووقف نزيفه المستمر طوال 30 شهرًا سابقة، انطلاقًا إلى سدِّ الثغرات وإرساء أرضيّة صُلبة تحتمل الخُطى وتُحفِّز العملَ وتُعزِّز قُدرتَنا على السَّير إلى الأمام. كلّ تلك الأهداف تحقَّقت دفعةً واحدة فى 30 يونيو، بعدما خرجنا من السيولة إلى التماسُكِ، ومن منطق العصابة إلى صورة الدولة، وأصبحنا أمام بلدٍ واضح المعالم فعلاً، يُواجه تحدِّيات طارئة ويتصدّى لها، بدلا عن صيغة الدولة الهشَّة التى عمل الإخوان بكل جهدٍ من أجل الوصول إليها!
ثمار 30 يونيو
غيّرت "30 يونيو" خريطة المنطقة جيوسياسيًّا، وأنهت حصارًا خانقًا من الإخوان وتيارات التطرُّف للحياة، وبفضلها تآكل مدُّ المُتطرفين إقليميًّا. كان مُخطَّطًا أن تُتَّخذ مصر قاعدة انطلاق لأسلمة المجال العربى، وكانت فروع الجماعة قاسمًا فى خطط السيطرة على الأطراف، ولم يكن مُمكنًا ضربُ الشبكة المُتشكِّلة من التنظيم وداعميه فى بعض الدول والأنظمة إلا بضرب قاعدة الهرم. من هذا المنطلق يُمكن قراءة تحولات المنطقة باعتبارها ابنًا شرعيًّا لثورة مصر، ولأثرها فى ضرب أهم حلقات التواصل بين الرجعية السياسية والتيار الدينى ووكلاء الخارج. 30 يونيو تحرُّك شعبىٌّ هادر ومُبهر؛ لكنه ليس مجرد حراك ثورى ناتج عن 25 يناير أو مُكمِّل لها، وإنما الفرع الذى تجاوز أصله، والموجة التى فاقت البحر، إذ إن دخول الإخوان على خط السُّلطة حافظ على ركائز سياسيَّة قديمة ومُعتلّة، ومزجها بالفاشيّة الدينيّة، وبعدما برزت تطلُّعات تكوين صيغية ميليشياتية مستقلة عن الدولة ومُضادّة لها، أصبحنا أمام بشارةٍ بحُكمٍ ثيوقراطى دموى، فضلاً عن مسخ الهويَّة وضرب ثقافة مصر ومنجزها الحضارى المُتراكم، بتسييد قيم الفرز على العقيدة والولاء والبراء وتضييق دوائر الانتماء والارتداد لروابط رجعيّة تنتمى لمرحلة ما قبل الدولة الحديثة، ومن ثمَّ فإن 30 يونيو مثَّلت استهدافًا مُباشرًا لتلك الصيغة المُرعبة قبل تدشينها وتمام اندماج مكوّناتها!
كانت الثورةُ خيارًا عامًّا، احتضنه الشعب وألقى مسؤوليته على كاهل مُؤسَّسات الدولة الصُّلبة، وبدورها أسَّست تلك الحالة الوطنيّة الجيّاشة على قاعدةِ الحوار، واستعادة التوافق، وبناء تحالفٍ وطنىٍّ وفق مُدوّنة 30 يونيو، يرفع الظرفَ التاريخى فوق اعتبارات السياسة، ويضع الوطن قبل الأيديولوجيا والحزب. استعادت الدولةُ الحوارَ فى مرحلةٍ حاسمة ومُختنقةٍ من عُمرها، بعدما ضيّعه السياسيّون فى مراحل مُنفتحة حوَّطتها وفرةُ الفُرص وفُسحةُ الوقت والطاقة. بهذا المنطق - وحسب المُوثّق تاريخيًّا وما عرضه مسلسل "الاختيار" فى جزئه الثالث نموذجًا - وجَّهت المؤسَّسة العسكرية الدعوة لكل القوى السياسية، حتى حزب الإخوان؛ رغم ما تسبّبوا فيه من فوضى وإرباك. كان واضحًا أن هناك رغبةً فى التوافق وتصفية الأزمة على أرضيَّة وطنيّة، تصون الصالح العام وتحترم إرادةَ الناس ولا تُغلقُ بابَ الحوار. رفض الإخوان الرجوع عن مُخطَّطهم؛ فأخرجوا أنفسهم من المشهد قبل أن يُخرجهم الناس، وتركوا تحالف 30 يونيو صافيًا نظيفًا لا تشوبه شائبةٌ من التنظيم ووكلائه!
أنجزت 30 يونيو أوَّلَ أهدافها بوضعِ نقطةٍ حاسمة فى نهاية جُملة التآمر على مصر ومُحاولة اختطافها، ثمّ تنشيط قُدرات الدولة من أجل التصدّى لموجةِ الردِّ العنيفة وما أثاره الإخوان من إرهابٍ وفوضى، وبدء مسار واضح نحو التحلُّل من مُخلَّفات مرحلة الارتباك. استعادت مصر جسدَها المؤسَّسى كاملاً، وأعادت ترتيب عناصر قوَّتها، ورتّبت أهدافها التكتيكية والاستراتيجية بقاعدة الأهمّ فالمُهمّ. بهذا المنطق تتابعت المراحل والحلقات: تأكيد قوّة الدولة واستعادة سُلطتها، وإنعاش الهياكل المؤسَّسيّة وتفعيل دورها وزيادة قُدرتها على الاضطلاع بمهامِّها الحيويّة، ورسم معالم مرحلة التعافى وترميم الشقوق، ثمّ البناء على كل ذلك فى مسارٍ صاعد باتِّجاه جُمهورية ثانية تملك أسباب القوَّة والتطوُّر، وتتلافى مكامن ضعف الجمهورية الأولى وثغراتها المُتسبِّبة فى الشِّقاق أو تغوّل بعض التيّارات على غيرها. فى تلك المرحلة كان واجبًا أن يتأسَّس الحوار على انحيازٍ واضح لتلك الأولويات، لكنَّ كثيرًا ممَّن اشتروا بضاعة الإخوان سابقًا اختاروا أولويات مُغايرة، ظلَّ انحيازها للأيديولوجيا ومنطق التكالب على استغلال "الفُرصة المواتية" لاقتناص مكاسب، أكبر من إعلائها فكرة تطبيع الأوضاع وتثبيت البنيان، وبهذا أخرجت نفسَها من المشهد مُختارةً، وتوقّفت فى منتصف طريقٍ ضبابيّة، بينما كان المُجتمع بكامله مُهرولاً للضوءِ فى اتّجاهٍ آخر!
باستثناء اختلافِ السَّاسة وعدم استيعاب كثيرٍ منهم للحظة التاريخيّة، أثمرت شجرة 30 يونيو بحسابات ما كان قائمًا وما كُنّا نخشاه أو نأمله: أصبح البلد أكثر ثباتًا، جفَّ مُستنقع الإرهاب المُنظّم، استعدنا علاقاتنا الخارجية وأنعشنا دوائر الانتماء والأمن القومى، ولعبت مصر أدوارًا أكثر محوريَّة وكفاءة فى ملفّات إقليميّة ودوليّة مُلتهبة، ونشطت ماكينة الاقتصاد والبناء وفق رؤية مُتوسطة وطويلة المدى جدَّدت شباب الدولة بعدما اقتربت من الشيخوخة، وأرست روافع تنمويّة نوعيَّة تمتدُّ أُفقيًّا ورأسيًّا فى جغرافيا ومجالات لم تكن مطروقة، وأطلقت مُبادرات عملاقة فى التنمية والخدمات والرعاية الاجتماعية، ورسمت خريطةً جديدة تستوعب الجمهورية الثانية بمُدوَّنتها الوطنيّة والقيميَّة. إجمالاً استوعبت 30 يونيو ما قبلها من ميراث الهوية والثوابت الوطنيّة بروحٍ مُنفتحة، وأعلنت قطيعةً واضحة مع ما شاب المراحل السابقة من عيوبٍ وتناقضات، وسعت إلى القوّة الشاملة لا من حيث كونها غايةً فى ذاتها، وإنما من مُنطلق أنها أداةٌ لازمةٌ لتعزيز السيادة، وترتيب الأولويات، والتنقُّل بين المراحل برُؤيةٍ وطنيَّة تُدير ولا تُدار، وتجمع ولا تُفرّق، وتُنجزُ العاجلَ دون أن تخسر الآجل أو تُطيحه خارجَ الصورة تمامًا.
التئام التحالف من جديد
عمل الإخوان على زرع الفُرقة فى نسيج السياسة والاجتماع، ثمّ استغلُّوها لتعبيد الطريق الصاعد باتّجاه صدارة المشهد؛ بغرض إحكام قبضتهم على مقاليد السلطة. ما فعلته 30 يونيو أنها واجهت طاقةَ الشِّقاق والنزاعات المُصطنعة، وغلَّت يدَّ التنظيم وحُلفائه عن تلك اللعبة؛ عبر استقبال رسالة الشارع على وجهها السليم، والتقيُّد بالإرادة الشعبية وما تُمليه من التزامات، وتدشين تحالفٍ وطنىٍّ واسع يستندُ إلى التكامُل الفعَّال، ويقوم على الشَّراكة والحوار. تلك اللحظةُ التاريخيّة فرزت مُكوِّنات الصورة بتوازناتها الحقيقية: ضفَّةٌ يقف فيها تيَّارٌ إرهابىُّ غايته اختطافُ الدولة لصالح مشروعٍ عابر للهويَّة والمصالح الوطنيَّة، وضفَّة مُقابلةٌ تصطفُّ فيها غالبيّة القوى والتيّارات السياسيَّة مع الشارع ومُؤسَّسات الدولة المُلتزمة بصيانة أمنها القومى ومصالحها العُليا. هكذا يُمكن النظر إلى "تحالف 30 يونيو" باعتباره مظلَّةٌ جامعةٌ ومفرزةٌ حقيقيَّة ميَّزت مَن ينحازون إلى مصر عمَّن ينحازون ضدَّها، بعيدًا ممّا جرى فى النهرِ لاحقًا من مصالح وحساباتٍ ألقت ببعضهم فى أحضان التنظيم، أو أبقت آخرين على حيادٍ رمادىٍّ غير مفهوم!
ميزةُ "دولة 30 يونيو" أنها منظومةٌ عاقلة، تُؤسِّس مواقفَها على ركائز منطقيَّةٍ، وتعمل طوال الوقت على استيعاب التناقضات وإدارتها، وليس التصادُم أو دخول مواجهات خشنة معها. بهذه الآليَّة عملت مصر فى ملفات داخليّة وإقليميّة ودوليّة عديدة، وضاعفت أصدقاءها ولم تخسر أعداءها أو تصل إلى القطيعة التامَّة معهم. تعتمد القيادةُ السياسيَّة نهجًا مُنفتحًا على الجميع، وواعيًا بمنطق الاختلاف والتمايز، غايتُه التوافق وتوسُّط المواقف، دون مُواءمةٍ جائرةٍ أو تهاونٍ فى الخُطوط الحمراء. رُبَّما بفضل تلك الرؤية اجتازت مصر فترتَها العصيبةَ دون انقسامات، وظلَّت التُربة الوطنيَّةُ صالحةً للإنبات والإثمار، لتتجسَّد كفاءةُ هذا الطَّرح وفعّاليته بالنَّظر إلى دعوة الرئيس السيسى خلال حفل "إفطار الأسرة المصرية" أواخر أبريل الماضى، بحضور عدد من رموز المُعارضة والطَّيف السياسى بكل مُستوياته، إلى حوارٍ وطنىٍّ واسعٍ لا يستثنى أحدًا ممَّن لم تتلوَّث أيديهم بالدماء ولم يتآمروا على البلد وسلامته، وما تبع ذلك من استقبالٍ حَسِن واستجابةٍ إيجابيَّةٍ من كُلِّ مُكوّنات النسيج الوطنى لتلك الدعوة، فى استعادةٍ عمليَّةٍ واضحةٍ وحاشدة لمشهد 30 يونيو وتحالفه العريض. كان تشكُّل تلك الجبهة من قبل إجراءً عاجلاً لإنقاذ دولةٍ مُهدَّدة، والتئامها الآن بعدما رسخت مصر واشتدّ عُودُها رسالة بأنَّنا إزاءَ اصطفافٍ جديد، يقوم تلك المرَّة على رغبةٍ جادّة فى البحث عن مُستقبلٍ أفضل، بعدما أفلتنا من مخاطر الماضى ورسمنا معالمَ واضحةً للحاضر!
لم تخضع مصر لابتزازٍ سابقٍ بينما كانت تخوض حربًا شرسةً أعقاب 30 يونيو. كان كثيرٌ من الرسائل الوافدةِ وقتَها مدفوعًا بحملاتٍ مُوجّهةٍ وتحاملٍ غشومٍ وانحيازات غير بيضاء، لكنَّ الدولة القائمة على ثورة شعبية وتحالفٍ راسخٍ لم تنشغل إلا بأولويَّاتها. الآن وقد تأكَّدنا من ثبات أُسسِ البيت وأركانه، وعصمناه من تأثيرات العواصف والضربات الخارجيّة، يُمكن أن نُعيد ترتيبَه من الداخل على الوجه الذى يُرضى الجميعَ فى إطار مُحدِّداتٍ واضحةٍ لا محيدَ عنها. كانت الثورةُ طوقَ نجاةٍ وإنقاذ، ثمّ مُحرِّك بناءٍ وتأسيسٍ لجمهورية شابّةٍ لا تُشبه ما شابت عليه الجمهورية الأولى، وأخيرًا استعادت دورَها الحاضنَ بخطوةٍ جادَّةٍ من أجل التئامِ تحالُفِها من جديد. تكفّلت السنواتُ التِّسع الماضيةُ بإيضاح الصورة، وتهذيب الأيديولوجيا وتخليصها من غُرور نُجومها وأغراضهم، ويُمكن الآنَ أن نجلس على بساطٍ واحدٍ مُطمئنّين إلى أمن مصر، ومُتحلِّلين من تقنيةِ اللعب القديمةِ بما يُخالطها من عوارِ احترافِ "السياسة بالابتزاز". أنجزت 30 يونيو مواثيقَها ولم تعُد مُهدَّدةً، ووضعت ملامح جمهوريَّتها الجديدة على قواعد مُعلنةٍ، وتمدُّ يدَها الآن إلى شُركائها، ويتبقَّى أن يستوعب الجميعُ الرسالة، وأن يكونوا على قدرِ اللحظة وما توفِّره من فُرصٍ وتفرضه من التزاماتٍ. عبرت الثورةُ بنا جميعًا، لكنَّها لم تتوقَّف عندما تخلَّى عنها بعض أبنائها، وحينما تُجدِّد نداءها الآن فإنّها لا تفعل ذلك لحاجةٍ أو عجز، لا سيّما أنها فى غير وضعيَّة اضطرار لهذا، وإنّما مبعثُها وغايتُها تجديدُ العهدِ وكتابة شهادة ميلادٍ جديدة لعقدنا الاجتماعى والسياسى، ولشركاءِ الوطن جميعًا أمام أنفسهم وقواعدهم، مثلما كان المشهدُ قبل تسعِ سنواتٍ إيذانًا بواقعٍ جديدٍ، ومثلما نقف الآن - اتفقنا جميعًا أو عاند البعض - أمام دولة جديدة وُلدت من رحم 30 يونيو، وتحوز شرعيَّتها الشعبيَّة وميثاقَها الغليظ!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة