داخل أحد أزقة مدينة السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، لوحة تراثية منسية تحتفظ بتاريخ الزمن الجميل، بطلها رجل ثمانيني يجلس على حاله منذ عشرات السنين، وبجواره أنتيكات ينبعث منها عبق الحضارة وروح التاريخ، وأمامه منضدة خشبية تحمل ماكينة لحام عتيقة مشتعلة بالنيران ومطارق للدق والتصليح، يمسك بأنامله الساحرة قطعا معدنية، يتأمل تفاصيلها بشغف وحب، وبدأب يتطلع فيما صنعته يداه الملتحفتان بالشقاء من عشرات الأقماع والحصالات وبوابير الجاز، ينتظر بلهفة وصول زبائنه إليه.
ستون عاما شاهدة على تاريخ عم "السيد" في صناعة "وابور الجاز"، تلك الحرفة اليدوية العريقة التي تعبق بالتراث والأصالة، وعكف أقدم صناعها بإخلاصه وتفانيه وحبه لعمله على التمسك بها والحفاظ عليها لسنوات طويلة، معتمدا على مهارته وخبرته وأدواته العتيقة وحب الناس له، فبابتسامته الراضية وقلبه النقي ظل سنوات حياته يكافح بالعمل في تصنيع وتصليح بوابير الجاز، وكل ما هو صاج بالقصدير؛ ليحافظ على مهنته من الإندثار.
وبينما كانت خبطات يده المتجانسة تشدو بضرباتها ونغماتها المهندمة وهي تصنع قمع صغير من الصاج على فرشته، قال السيد عبد الغني أقدم سمكري بوابير جاز في الدقهلية لـ"اليوم السابع"، إنه كافح في الحياة بعمله وشقائه في مهنة تصنيع البوابير منذ أن كان في الـ15 من عمره، فمذ طفولته وهو يعمل في مهنته ليل نهار دون أن يتركها أو يتخلى عنها يوما ما بالرغم من انقراضها وقلة الإقبال على شراء الوابور بعد تطور الحياة، مشيرا إلى أن كان للسمكري أهمية كبيرة قديما، كونه يصنع البوابير التي يعتمد عليها الناس في طهي الطعام.
وبنبرة صوت حزينة، تابع عم "السيد" حديثه قائلا: "في زماننا السمكري كان ليه شنة ورنة، لكن دلوقتي معدش ليه أي أهمية.. كان لمصلح البوابير شأن وأهمية كبير قديما، نظرا لأهمية البابور قديما واستخدامه في عمليات الطهي والإنارة والاستخدامات اليومية، ومع مرور السنين تحول البابور من موقد للنار إلى تحفة وأنتيك يقبل على شرائه بعض محبي التراث القديم"، مشيرا إلى أن المهنة لا تقل شأنا عن أي مهنة أخرى، ومن كان يمتهنها قديما كمن التحق بكلية الطب، ولكن مع مرور الوقت تراجعت المهنة وعزف عنها صناعها وممتهنيها ولم يعد أحدا يقبل على شراء البوابير أو يهتم بها، وهذا ما دفعه إلى أن يعتمد في عمله على صناعة الحصالات القديمة المصنوعة من الصاج والتي يستخدمها الأطفال في حفظ الأموال، وصناعة الأقماع وتصليح كل ما هو مصنوع من الصاج يدويا بالكامل، وتتراوح أسعار الأقماع ما بين 5 إلى 70 جنيها، وتصليح البوابير يبدأ من 5 جنيهات، ويبلغ سعر الحصالة 4 جنيهات.
وبصوته الرنان وهو يشدو أغنية للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، أوضح أنه اعتاد على النزول يوميا للشارع منذ الساعة السابعة صباحا، حاملا أدواته العتيقة التي يتخطى عمرها عشرات السنين، شاكوشا ومقصا ومكواة لحام، ويظل يبدع في تصنيع أدوات الصاج، وتصليحها، منتظرا زبائنه من كافة أرجاء مدينة السنبلاوين حتى الساعة الخامسة عصرا، "طول ما أنا عايش على وش الأرض عمري ما هبطل صنعتي وفني، هي حياتي ورزقي، وربنا مبينساش حد" ، والحمدلله رضا".
وأشار إلى أنه يفتخر بما حققه في حياته بعمله وكفاحه في مهنة أصيلة وعريقة بأقل الإمكانيات دون امتلاكه لورشة، واستقراره في زاوية من أحد الشوارع بمدينة السنبلاوين لصيانة البوابير وكل ما هو مصنوع من الصاج، وتصنيع الأقماع بكل أشكالها وأحجامها، ونجاحه في الحفاظ على المهنة من الاندثار، مؤكدا على أن مهنته هي ما وفرت لأبنائه الأربعة حياة كريمة وربتهم وعلمتهم وبنت لهم مستقبلهم، "عيشت طفولتي وشبابي وحياتي كلها في المهنة، ومقدرش أستغنى عنها، ربتلي عيالي وكبرتهم وعيشتنا بالحلال".
أقدم صانع بوابير جاز في الدقهلية
صناعة أقماع الصاج
عم السيد أقدم صانع بوابير جاز في الدقهلية
عم السيد أقدم صناع بوابير الجاز في الدقهلية
عم السيد أكثر من 60 عام يصنع ويصلح بوابير الجاز في الدقهلية
عم السيد وهو يصنع أقماع الصاج
عم السيد يكافح بالعمل فيس تصليح بوابير الجاز
عم السيد
عمل عم السيد في لحام الصاج وتصليح بوابير الجاز
كفاح وشقاء عم السيد في مهنة تصنيع وتصليح بوابير الجاز
لحام أقماع الصاج
لحام الصاج
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة