وكأنه يزيح عنك غبار الأحزان والضجيج والقبح ليصل إلى أعماق روحك، ويلمس قلبك ووجدانك ويمنحك جرعة من الجمال والنقاء والحكمة، ينقلك الكاتب المبدع عبد الرحيم كمال إلى عالم جزيرة غمام، فتستمتع بجمل حوارية مكتوبة بماء الروح تجمع بين البساطة والصدق والعمق، وكأن من كتبها ساحر أصاب سحره كل من شاهد المسلسل كما أصاب كل الفنانين المشاركين فيه والذين تشبعوا بالشخصيات ولبسوها وفاجأونا بهذه المبارة الإبداعية فى الأداء والتى لا تستطيع أن تحسم فيها أيهم أكثر إبداعًا من الآخر.
سحر كلمات عبد الرحيم كمال التى جسدت الحكمة من الخلق والحياة وقيمة الإنسان ومكانته وتفضيل الله له، ولخصته فى مشهد صغير على لسان سمير ابن محارب الطفل الأسمر الجميل الذى وقف أمام أستاذه وهو يهينه ويناديه بكلمة "جحش" ليقول فى صدق وإبداع عبارات قليلة الكلمات عميقة المعنى والآثر: "أنا مش جحش أنا سمير.. أنا أحلى حاجة فى الدنيا.. أنا أهم حاجة فى الدنيا.. أنا أغنى واحد فى الدنيا"، فأصاب السحر موهبة الطفل منذر مهران ليعطينا مشهد من أروع وأمتع المشاهد.
سحر عبدالرحيم كمال وعالمه الذى أبهرنا فى أعماله السابقة التى تخاطب القلب والروح وتعزف على أوتار الحكمة ومنها الرحايا، شيخ العرب همام، الخواجة عبدالقادر، ونوس، دهشة، يونس ولد فضة، أهه ده اللى صار، وغيرها، ليتوج هذه الأعمال هذا العام برائعة جزيرة غمام ، هذا العمل الذى اجتمعت فيه كل عناصر الإبداع لتصنع تحفة فنية ممتعة وخالدة ستبقى ضمن أهم الأعمال الدرامية التى توافرت فيها كل مقومات المتعة البصرية والسمعية وأجمل وأعمق الجمل الحوارية إخراجاً وتصويراً وتمثيلاً وموسيقى وغناء وتترات.
عبدالرحيم كمال أحد كبار الكتاب الذين كتبوا الدراما الصعيدية ليس بحكم انتمائه الصعيدى فقط ولكن لما يبذله من مجهود فى كل تفصيلة وكلمة وحوار، فيمزج الحكمة والثقافة والمعلومة مع روحه الصوفية وسحر جمله الحوارية ليمتعنا فى كل مشهد ويسحرك ويطرق باب قلبك ويعزف على أوتار روحك.
سحر عبد الرحيم كمال الذى ترجمه ساحر آخر فى موسيقى تليق بهذا الإبداع وتعبر عنه وضعها المبدع شادى مؤنس لتكون الموسيقى بطل من أبطال جزيرة غمام تعبر بوضوح وصدق عن كل مشاعر الحزن والفرح والحب والغموض والسحر والمشاعر الداخلية للشخصيات والأحداث ، كما صنع شادى من التتر تحفة فنية ليعيدنا إلى زمن التترات الجميلة الباقية والراسخة فى أذهان اللايين ببصمة وصوت صاحب الحنجرة الذهبية على الحجار على تتر البداية الذى كتبه الشاعر الكبير إبراهيم عبدالفتاح، وموسيقى تتر النهاية الساحرة المبهرة.
سحر عبد الرحيم كمال الذى انتقل إلى شخصياته وإلى الفنانين المبدعين الذين جسدوها..خلدون الشيطان الذى لبس طارق لطفى وتجلى فى نظراته ونبرات صوته وصمته وتعبيراته وأدائه السهل الممتنع الذى يبارى كبار النجوم العالميين ويذكرنا بملوك الشر العمالقة زكى رستم ومحمود المليجى، ويمنحنا الأمل بأن فيض الإبداع المصرى لن ينضب، وعرفات الملاك الذى تجسد فى شخصية أحمد أمين مفاجأة المسلسل الذى تفوق على نفسه وأثبت أنه فنان من العيار الثقيل قادر على أن يدهشك فى كل مشهد بقدرة وموهبة فائقة تتسلل إلى وجدانك بسلاسة ويسر دون تكلف أو تعقيد، والمبدع المتمكن رياض الخولى الذى يخطف عينك وقلبك فى كل مشهد بقدراته الفنية وصدق أدائه وتعبيراته، والعايقة الجميلة مى عز التى يمثل دورها فى المسلسل نقلة كبيرة فى مشوارها الفنى ، حيث وصلت إلى درجة كبيرة من النضج والتمكن والقدرة على تجسيد الانفعالات بنظرة العين والملامح دون صخب وضجيج ، وكأنها ابتلعت وهضمت كل تاريخ الشخصية المحزن والمأساوى لتظهر مرارته فى كل المشاهد حتى تلك التى ترقص فيها.
وانتقل السحر إلى الثعلب البارع فتحى عبدالوهاب الذى يجسد شخصية " الشيخ محارب" مدعى الفضيلة والدين، بنظراته ونبرة صوته وابتسامته الصفراء وتلونه فى كل مشهد وجملة، والفنان المخضرم محمود البزاوى الذى يستطيع أداء كل شخصية وعكسها والذى يمتلك قدرة وموهبة فنية كبيرة والذى جسد شخصية " بطلان"، والموهوب محمد جمعة الذى جسد شخصية الشيخ يسرى، بما يحمله من غموض وتناقضات، والفنانة الكبيرة صاحبة الحضور المميز وفاء عامر التى جسدت دور هلالة ، ورغم قلة مشاهدها تستطيع أن تسحرك وتخطف عينيك بأدائها الرصين المتمكن الواعى لكل تفاصيل الشخصية.
أما الفنانة الكبيرة عايدة فهمى والتى جسدت دور الخالة مليحة الكفيفة فى المسلسل فقد تفوقت على نفسها لتجسد أجمل أدوارها وتؤكد أنها فنانة من العيار الثقيل تحمل من الخبرة والموهبة ما جعلها تبدع فى كل مشاهدها بالمسلسل وهى تجسد دور الجدة الكفيفة التى تبحث عن قاتل حفيدتها.
وهكذا يبدع الجميع فى بطولة جماعية ومباراة إبداعية ممتعة بين كل الفنانين المشاركين فى المسلسل ، تحت قيادة المخرج الكبير حسين المنباوى الذى استطاع نسج كل هذه العناصر الإبداعية فى لوحات فنية ممتعة ليمنحنا تحفة درامية خالدة ستبقى فى ذاكرة الجمهور .
جزيرة غمام المسلسل الذى تحمل كل جملة من جمله الحوارية حكمة عميقة وصدق يلمس القلوب وسحر يسكن الروح ويمنحك توليفة من جمال الدين والدنيا نسجها كاتب بارع لتجعلك تحلق وتفكر وتسمو وتعرف وتحب وكأنه يعزف على أوتار روحك ، شكرا عبدالرحيم كمال على هذا الفيض من الإبداع والجمال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة