عبده زكى

أناشدكم: لا تبالغوا فى الاحتفاء بعيد الأم

الجمعة، 18 مارس 2022 12:30 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أنا لا أطالبكم بألا تحتفلوا بأمهاتكم، فهى أغلى ما تملكون، وإن كنتم لا تعرفون اليوم قيمتها الحقيقية، فبعد رحيلها سوف تعرفون، تماما كما علمت بعد رحيل أمي الفاضلة العظيمة السيدة رقية محمد جعفر، عميدة وسيدة عائلتها، وعميدة وسيدة أسرتنا.

 

أنا أناشدكم فقط ألا تبالغوا في ترويج الاحتفال، ليس حقدا عليكم ويعلم الله، فقد عرفت أن الاحتفاء بالأم مهما عظم شأنه فهو فليل، ودافعي حين أناشدكم بذلك هو أن أمي ماتت، وماتت أمهات كثيرات هذا العام، ورغم مرور شهور ليست بالقليلة ما زال قلبي ينزف، أنا الذي اعتقدت يوما أن رحيل الأم يبدو مقبولا وكنت ألوم على من يصدرون لنا أحزانهم معتقدا بأنهم يبالغون اليوم أعتذر لهم.

 

لا أعرف على وجه اليقين إن كان حزني على فراق أمي يشبه حزن الأخرين أم لا، لكن ما أعرفه أن الحزن لا يتبدد بمرور الوقت بل يتعاظم، ويزداد ويتفاقم، حزن يقطع الأحشاء، يكاد أن يلتهم نور العين من كثرة الدموع التي تذرفها.

 

سأقص عليكم حكايتي، أنا يا سادة ما تذكرت أمي إلا وبكيت، وأنا أتذكرها في اليوم مرات عديدة، وحين أخلد إلى نفسي أدهش بالبكاء، بكاء أخفيه عن الجميع، فقد تعودنا ألا يرى أحد ضعفنا وانهيارنا.

 

كل التفاصيل تمر أمامي في شريط الذكريات، يكفي لقطة واحدة من المشهد حتى تتحول من قمة السعادة إلى منتهى الحزن، والسعادة يا سادة منقوصة، لا ابتسامة خالصة، ولا ضحكة من القلب، مظاهر السعادة من ابتسامة وضحكة لا تتخطى حدود الشفتين واللسان فبعدهما بداية من الحلقوم وانتهاء بالأحشاء يشبه السواد في أقصى درجاته.

 

القلب بات مكسورا ولا اعتقد أن شيء سيصلحه ويبدو أنني سأعيش ما تبقى من العمر كذلك، ويبدو أن كل إنسان سيعيش مثلى طالما كانت أمه مثل أمي في عظمتها وعطائها وقيمها ونقائها.

 

وأمي يا سادة ليست ككل النساء، صدقوني حين أقول ذلك، أنا لا ابالغ، ومبرراتي كثيرة، أصدقها بطبيعة الحالي ما علمتني إياه من قيم ومبادئ، أنا ما زللت لا أعرف كيف أتخلص منها، أمي علمتني الصدق وأن الكذب جبن وخسة، وعلمتني الأمانة، وعلمتني الرضا، وعلمتني الوفاء، فكبرت وأنا لا أعرف الخيانة، وأنا أقدر من ساندني ولو أخطأ، قالت العظيمة أمي أن من أساء لك ليس بالضرورة يكرهك فتذكر يوما وقف بجانبك، لذلك أنا أصبحت لا أخون ولا أكذب ولا أحقد بفضل أمي.

 

اعتذر لك يا أمي لأنني خالفتك في شيء وحيد، كانت الفاضلة الشريفة توصيني بألا أعاتب أحدا لأن في العتاب مهانة، خاصة إذا كان المعاتب ندلا بالفطرة، حقيرا بالوراثة، مستغلا ودنيئا كالذئب، والحق أقول لكم أنني طبقت نصيحتها كثيرا حتى أن بعض الأنذال اعتقدوا سذاجتي بينما كنت اعرفهم وأسخر منهم ولا أمنحهم شرف عتابهم.

حين خطف الموت أمي، بعض من كانوا يتوددون لها طمعا في خيراتها، وبعض ممن سترتهم في الدنيا وعاملتهم كأولادها حتى الكبار منهم، تجاهلوا موتها والغريب أنهم كانوا من المقربين إليها شكليا بطبيعة الحال، وفى غمرة الحزن وانهيار الأعصاب نسيت توصية أمي وعاتبتهم، فوجدتهم مجموعة من السفلة والساقطين، والمحتالين، والذئاب، والمستغلين، والحقيقة أنني ما تصورت يوما أنهم بلغوا هذا القدر من الوضاعة، لكن بعد فترة عدت لأتذكر كلمات أمي عنهم حيث قالت لي: أنا أعاملهم بهذه الطريقة إرضاء لوجه الله، وأعرف حقيقتهم تماما، هؤلاء يا أمي أنا أهنتهم وعريتهم وكشفتهم أمام أنفسهم وأرجوك أن تسامحيني إن كنت أخطأت.

 

على أي حال، لا يهم العتاب ولا من عاتبتهم، فهذه توافه بجانب موت أمى، الواقع أن أمى ماتت، وتركتني أشعر بالوحدة، بلا سند، بلا أي معين، أنا لم يكن لى في هذه الدنيا سوى أمي، كانت مصدر الأمان الوحيد، وكانت وحدها تشعر بي دون أن أتكلم، بعدها هان العالم، هان كل شيء، نظرتي للأمور تغيرت، حتى هؤلاء الأوغاد اللذين عاتبت، أشعر اليوم بتفاهة ما فعلت، ما كان لي أن ألومهم، وما أهمية شعورهم بالخسة والندالة، إن حدث، مقارنة بما خسرت، أنا خسرت الحياة برحيل أمي.

 

يا أمي أنا لدى شعور قاتل ومستمر وهو أننى ما أوفيتك حقك، دائما كنت مقصرا، ليتني كنت بجانبك طوال حياتي، ليتني ما غادرت، كل الدنيا بلا قيمة بعدك، أنا على يقين أنك تسمعين ما أقول وتشعرين بما أعانى، وتعرفين كم الحسرة والحرمان اللذين يلازماني، أنا أقسم لك يا أمي لا أصدق أنك رحلت، أنا لا استوعب هذه الفكرة مطلقا، أنا اسمعك وأجيبك الآن: حاضر يا أمي سأفعل كل ما تمنيت لي، أجدد عهدي معك إن طال العمر سأنفذ رغباتك، أنا لم أنساها وكنت سأنفذها لولا أن الموت خطفك.

 

يا حسرتنا، على رحيلك، كيف خطفك الموت من بيد يدينا ونحن ملتفون حولك، ما هذه السكينة التي أصابتنا في لحظاتك الأخيرة، كيف تصورت أنك في طريقك للشفاء، بينما كانت الروح بلغت الحلقوم، كيف استرحت بعد أيام من العذاب عشتها كعصفور في مقلاة زيت يغلى، لماذا في الدقائق الأخيرة استرحت، بينما كنت معلقا بين السماء والأرض أياما قبلها.

 

في عيدك يا أمي هذا العام لن أهنئك كما تعودت، ولن أهنئ أحدا، سواك، وأطمئنك يا أمي أنني أشتم في أختي الصغيرة ريحتك وأشعر فيها بحنانك، وإنها على العهد، وإنها أمي الصغيرة، فاطمئني يا أمي هناك حيث الأفضل من الدنيا، أرجوك يا أمي تأكدي أننا جميعا على العهد ونعلم ما يغضبك حين كنت بيننا ولن نفعله وأنت بعيدة بالجسد عنا لأننا نعلم بأنك ترانا واعلمي أننا نراك ونسمعك.. أمى الحبيبة ارقدي في سلام إلى أن نلقاك في عالم بلا أوغاد ولا أشرار.. عيدك في الجنة يا سيدة النساء، عيدك في الجنة يا هانم.

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة