أكرم القصاص - علا الشافعي

بيشوى رمزى

"الوحدة الإقليمية المتوازنة".. "دروس" الاتحاد الأوروبي

الأربعاء، 21 ديسمبر 2022 01:29 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ربما كان الاتحاد الأوروبي هو النموذج الأبرز للوحدة الإقليمية، منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وهو ما بدا في قدرته منقطعة النظير على تحقيق حالة من التكامل القارى، امتدت من تدشين عملة موحدة، ومرورا بإرساء سياسة الحدود المفتوحة، لتسهيل التنقل والتجارة بين الدول الأعضاء،  وحتى الرؤية السياسية، والتي طغت في الكثير من الأحيان على أية انقسامات قد تطرأ بين الدول الأعضاء، لتصبح المفوضية بمثابة حكومة قارية، تذوب على اعتابها مفاهيم السيادة التقليدية، وهو الأمر الذي شهد تغييرا كبيرا في السنوات الأخيرة، منذ استفتاء خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، والأزمات التي عصفت بالحالة الوحدوية، سواء على خلفية الازمة المالية العالمية، في أواخر العقد الأول من الألفية، وحتى الوباء وتداعيات الأزمة الأوكرانية، ناهيك عن زيادة أعداد اللاجئين، وما ترتب على ذلك من مخاوف اقتصادية وأمنية، وغيرها
 
والمتأمل لمسيرة الاتحاد الأوروبي، ربما يلحظ أنه ارتبط بالصعود الأمريكي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما تم تدشين اتحاد الفحم والصلب، في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، ليكون بمثابة "اللبنة" الأولى في مسيرة الكيان الإقليمي العملاق،  بينما وصل إلى الذروة مع بدء حقبة الهيمنة المطلقة في التسعينات، لتصبح الولايات المتحدة الداعم الأكبر لـ"أوروبا الموحدة"، لتشكل كتلة قوية داعمة لها، يمكنها إضفاء الشرعية الدولية للرؤى التي تتبناها، من جانب، بالإضافة إلى إرساء كيان دولي يبدو "فيدراليا"، في ثوب "كونفدرالي"، مواليا لها، ويمثل بديلا قاريا للاتحاد السوفيتي السابق، يمكنه التوغل إلى أوروبا الشرقية، وحصار روسيا وتقويض أية محاولة من جانبها للعودة مجددا نحو القيام بدور فاعل على الساحة الدولية، من جانب أخر، ليكون الاتحاد بمثابة غطاء سياسي، للمعسكر الغربي، في صورته الجديدة الممتدة إلى شرق القارة، في الوقت الذي لعب فيه الناتو دور الذراع الأمنى والعسكري في القارة العجوز، وهو ما يضفي قدرا من المؤسساتية الصارمة على المعسكر الموالي لواشنطن.
 
وعلى الرغم من الإعجاب الشديد بالحالة الأوروبية الموحدة، باعتبارها النموذج الذي لم تتمكن كافة الأقاليم الأخرى من الوصول إليه، إلا أن ثمة نقائص عدة برزت مؤخرا، رغم تواريها طيلة العقود الماضية خلف الدعم المقدم من واشنطن، أبرزها الانقسام، والعجز عن مجابهة الأزمات طويلة الأمد، ناهيك عن غياب "استقلالية" القرار القاري، إثر الدوران المطلق في الفلك الأمريكي، وهو ما ساهم في تراجع الدور، وحالة من التمرد الشعبي داخل العديد من الدول الأعضاء، والتي وصلت إلى المطالبة بالخروج من الاتحاد، مما عزز تيارات اليمين، والتي حققت نتائج كبيرة في الانتخابات التي شهدتها عدة دول في القارة العجوز طيلة السنوات الماضية.
 
وهنا تبقى المعضلة الأوروبية في ارتباط وحدتها بمركز صناعة القرار في الولايات المتحدة، وهو ما يبدو في تراجع قدرة القارة على الصمود مع التخلي الأمريكي، والذي تجلى في أبهى صوره، خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، والذي دعم الخروج البريطاني، بل ورفض أى تحرك من لندن ليكون انسحابها من أوروبا الموحدة "ناعما"، وهو ما دفع رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماى إلى الاستقالة، ليخلفها بوريس جونسون، والذي يحمل نهجا مناوئا لحالة الاتحاد القاري، وهو ما خلق انسجاما بينه وبين البيت الأبيض في تلك الفترة.
 
الحالة الأوروبية الملهمة عند بزوغها، تبدو بحاجة إلى المراجعة المتأنية، عند الحديث عن الكيانات الإقليمية، ودورها وصلاحياتها على الدول الأعضاء وعلاقاتها مع العالم الخارجي في المرحلة الراهنة، في ضوء التراجع الملموس لـ"أوروبا الموحدة"، في الوقت الذي تبدو فيه الحاجة ملحة لتعزيز دور الأقاليم في مجابهة الأزمات الجديدة، خاصة مع اختلاف الظروف الدولية بشكل عام، وكذلك الاختلاف الكبير فيما يتعلق بخصوصية كل إقليم، من حيث الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ناهيك عن الجانب الثقافي والهوية وغيرها من العوامل، والتي توارت خلف صورة الوحدة لسنوات في أوروبا، بينما ثارت مع تواتر الأزمات الكبرى في الآونة الأخيرة.
 
تجربة "أوروبا الموحدة" تسلط الضوء على ضرورة تحقيق ما يمكننا تسميته بـ"الوحدة المتوازنة"، عبر استقلالية القرار، سواء للكيان الإقليمي في صورته الجمعية، في علاقته بالقوى الكبرى، فتكون حالة التوحد نابعة من الداخل الإقليمي، بعيدا عن "لعبة" المصالح التي تتبناها أطرافا أخرى في المعادلة الدولية، من جانب، أو للدول الأعضاء، فيما يتعلق بالرؤى السياسية، والقرارات، في علاقتها بالكيان الإقليمي نفسه، عبر تحقيق أكبر قدر من التوازن، فلا تطغى الحالة "الوحدوية"، على مفهوم "السيادة"، كما لا ينبغي، في الوقت نفسه، أن تطغى حقوق الدولة في الاحتفاظ بسيادتها على المصلحة الجمعية لمناطقها الجغرافية، خاصة في ظل حالة الامتداد والتمدد التي تشهدها الأزمات الدولية في اللحظة الراهنة، والتي تحتم ضرورة العمل الجماعي، في الداخل الإقليمي، أو على المستوى الدولي، في إطار من التوافق والشراكة من جانب أخر.
 
"الوحدة الإقليمية المتوازنة" من شأنها تحقيق مصالح الأقاليم، في ضوء الظروف المتاحة، بالإضافة إلى إمكانية الانفتاح على الأقاليم الأخرى، دون الدوران في فلك واحد، وهو ما يسمح بتوسيع دائرة التكامل على كافة الأصعدة، في إطار توسيع "الدوائر الإقليمية"، مما يدفع الدول الأعضاء نحو تنويع تحالفاتها مع كافة القوى الفاعلة هنا أو هناك، والتواكب مع  معطيات الحقبة الدولية الجديدة، مما يصب في صالحها فرديا أو على المستوى الإقليمي الجمعي.
 
ويمثل الوصول إلى تلك الحالة المتوازنة، بمثابة "الرؤية المعتدلة"، نحو ما يدعو إليه الكثير من المتابعين للمشهد الدولي، حول ضرورة إصلاح المنظمات الإقليمية والدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، والتي تراجع دورها بسبب غياب التوازن، واستئثار حفنة من الدول بالقرارات الكبرى، في إطار مجلس الأمن الدولي، وهو ما يتطلب تغييره مع تصاعد دور القوى الإقليمية، ناهيك عن الأهمية الكبيرة التي باتت تحظى بها كافة الأقاليم، في مجابهة أزمات العالم الجديد.
 
وهنا يمكننا القول بأن عملية الإصلاح المنشود، لا يمكن أن تبدأ من قمة الهرم الدولي، من خلال "الأمم المتحدة"، وإنما من القاعدة، عبر تفعيل دور القوى الإقليمية المؤثرة، واحترام سيادتها، مع مراعاة عدم طغيان مفهوم "السيادة" على العمل الجمعي في كل منطقة جغرافية، ومن ثم تتحقق حالة "الوحدة المتوازنة"، التي من شأنها تعزيز صورة الأقاليم بصورتها الجمعية، حتى يمكنها في نهاية المطاف في المشاركة الفعالة في مراكز صناعة القرار الدولي، وعلى رأسها المنظمة الدولية الأكبر في المرحلة المقبلة.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة